مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
زن واعلم من أي الفريقين أنت...2
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
17/12/2022 القراءات: 355
فإذا سلك العبد علي هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها .
فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه واثره علي ما سواه ورضي به من
الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه وتقطع شكرا له .
ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب فصدت عن كمال نعيمها وذلك تقدير العزيز العليم وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه هذا ما لا يكون أبدا .
ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلي الله ثم تركها وأقبل علي إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابا لم يعذب به أحدا من العالمين ، فحياته عجز وغم وحزن وموته كدر وحسرة ومعاده أسف وندامة قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله وأحضر نفسه الغموم والأحزان .
فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكي فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته فقد أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلا وبغناه فقرا وبجمعيته تشتيتا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا .
ذلك بأنه عرف طريقه إلي الله ثم تركها ناكبا مكبا علي وجهه فأبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر وأقبل ثم أدبر ودعي فما أجاب وفتح له فولي ظهره الباب قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته علي هواه .
فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيد القلب عن
انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلي أسفل سافلين وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت فؤاده وإعراض الكون عنه – إذ أعرض ربه – حائل بينه وبين مراده .
فهو قبر يمشي علي وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقلبه في ملال من حياته يتمني الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه حتى إذا جاءه الموت علي تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحراقه بنار البعد من قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته .
فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وارته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه في زمن الاستعتاب هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي هي كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذتها أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها أقدر ما كان عليها وتلك سنة الله في خلقه كما قال تعالى : ﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ﴾ . وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهواته علي مرضاة ربه يعوق القدر عليه أسباب مرداه فيخسر الأمرين جميعا فيكون معذبا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضي وحرص لا ينفد وذل لا
ينتهي وطمع لا يقلع وهذا في هذه الدار .
وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك قد حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جميع غمومه وأحزانه ، وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين .
فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أحواله وأعماله وقارنه سوء الحال وفساد في دينه وماله فإن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسف أنوارها وظهر عليها وحشة الإعراض وصارت مأوى للشياطين وهدفا للشرور ومصبا للبلاء .
فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منها خصوصا إذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات عاكفا على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى .
قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره علي كل ما سواه علي ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه .
فأصبح في سجن الهوى ثاويا وفي أسر العدو مقيما وفي بئر المعصية ساقطا وفي أودية الحيرة والتفرقة هائما معرضا عن المطالب العالية إلي
الأغراض الخسيسة الفانية كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسفل الحش :
فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها يا عجبا له بأي شيء تعوض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكنا وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار .
فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه في رضاه وطالبا رضى من سعادته في إرضاء سواه إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر طعام لذيذ مسموم أوله لذة وآخره هلاك .
فالعالم عليها والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته .
فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سبحانه إذا أقبل علي عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهر عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال .
زن واعلم من أي الفريقين أنت...2
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة