مدونة مسعد عامر سيدون المهري


شاعر مع القرآن.. التغيير الفكري والشعوري

مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry


19/04/2023 القراءات: 486  


لا يخفى على ذي لب الأثر العظيم الذي تركه القران على الأدباء الذين نهلوا من معينه، ووردوا حوضه، والتفوا على مائدته، فجنوا ثمار الفكر والعلم والحكمة، فظهر ذلك في أخلاقهم ولغتهم وأسلوب تفكيرهم.
وشاعرنا الذي أحببت أن أسلط الضوء عليها في هذه المقالة هو أحد شعراء المعلقات التي اصطفتها العرب، وفضلتها وقدمتها على باقي الاختيارات الشعرية.
أما الشاعر لبيد بن ربيعة، فهو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، ويكنى أبا عقيل، وكان من شعراء الجاهلية وفرسانهم. عاش في الجاهلية والاسلام، إذ عاصر الحارث بن أبي شمر الغساني، والمنذر بن ماء السماء. أدرك الاسلام وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقال إنه لم يقل في الاسلام غير بيت واحد، هو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى كياني من الإسلام سربالا.. وقيل غير ذلك.
فهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والاسلام، كما إنه من شعراء المعلقات بمعلقته الشهيرة:
عفت الديار محلها فمقاممها. بمنى تأبد غولها فرجامها
لكنه حين أسلم أحجم عن قول الشعر، وقال عند من طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينشده، قال قد الدني الله خير منه سورة البقرة وآل عمران ..
لماذا تأثر لبيد بالقرآن؟ حتى جعله ينصرف عنه في اعز المواقف وهو الموقف الذي ذكره ابن قتيبة في الشعر والشعراء حين أسند مهمة الرد الشعري على أبيات الوليد عقبة:
أرى الجزار يشحذ شفرتيه إذا هبّت رياح أبي عقيلِ
أشمُّ الأنف أصيدُ عامريٌّ. طويل الباع كالسيف الثقيل
وفى ابن الجعفريّ بحلفتيه. على العلات والمال القليل
بنجر الكوم إذ سحبت عليه. ذيول صبا تجاوب بالأصيل
فلما أتاه الشعر قال لابنته: أجيبه فقد رأيتيني وما أعيا بجواب شاعر، فقالت:
إذا هبت رياح أبي عقيل. دعونا عند هبّتها الوليدا
أسم الأنف أصيد عبشميا. أعان على مروءته ليبدأ
بأمثال الهضاب كأن ركبا. عليها من بني حام قعودا
أبا وهب جزاك الله خيرا. نحرناها واطعمنا الثريدا
فعد إن الكريم له معاد. وظني يا ابن اروى أن تعودت
فقال لها لبيد: أحسنتِ لولا أنك استطعنتيه ، فقال: إنه ملك وليس بسوقة، ولا بأس باستطعام الملوك .
وتتلخص القصة السابقة في أن لبيد اقسم في الجاهلية ألا تهب الصبا الا اطعم الناس حتى تسكن، فخطب الوليد بن عقبة بالكوفة يوم صبا، وقال: أن اختكم لبيدا قد آلى ألا تهب له الصبا الا أطعم الناس.. وهذا يوم من أيامه فأعينوه وأنا اول من أعانه، ونزل فبعث له بمائة بكرة، وكتب إليه الابيات المذكورة..
لعل من الأسباب التي دعت لبيد اعتزال الشاعر هو خضوعه المطلق لسلطان البيان القران الكريم وأسلوبه المعجز، كيف لا وقد أبهر القران الكريم العقول والقلوب من الجن والانس، هذا القرآن العجب كما قالت الجن: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد..)
أن الإيمان حين تمتزج بشاشته قلب المؤمن يشهد تحولات جذرية في فكره وشعوره وعاداته وأنماط حياته ، وهذا ما نلمسه في المجتمع العربي حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزل عليهم القرآن الكريم، فيتخلون عن معتقداتهم وعاداتهم لأنهم ببساطة يفهمون معانيه ويقفون عند ألفاظه.
هذا جبير بن مطعم حضر المدينة والإمام يقرأ بالناس سورة الطور، فاستمع حتى إذا ما بلغ القاريء قول الله تعالى: ( ام خُلِفوا من غير شيء أم هم الخالقون) قال: كاد قلبي أن يطير.
وعمر بن الخطاب رضي في إسلامه وتحوله من معقل الكفر إلى الإيمان أثر من آثار القرآن عندما قريء عليه مستهل سورة طه.. والنماذج كثيرة .
لكن أن يكون المتأثر شاعرا ينظم الكلام، ويقدم جواهر الألفاظ والمعاني، فهذا دليل من دلائل الاعجاز البياني، وكأن لبيد يريد أن يقول لنا: اني مع علمي بالشعر وأبحره واوزانه وقوافيه، ومعانيه وأغراضه، ولغته وتراكيبه التي اغوت الإنسان فوقع أسيرا لسطوته، أتنازل احتراما للبيان العالي البليغ، واتأمل مبانيه ومعانيه، واستزيد من معينه الذي لا ينضب فهو المنهل الذي يرده العلماء فلا يشبعون من معينه، ثم إني أبتغي الاجر والثواب من قراءة هذا الكتاب العزيز، الي كل حرف منه بحسنة، وما أحوجنا بني الإنسان إلى الحسنات والدرجات.
أمر آخر يضاف إلى العامل الشخصي السابق، وهو الأمر الاجتماعي، إذ كسر الاسلام الحدة الشعرية في نفوس أبناء المجتمع العربي، فالشعر مقرون بالحمية الجاهلية التي هذبها الاسلام، فخفت حدتها ، إذ لا فخر لعربي على عجمي الا بالتقوى ، من هنا لاحظ النقاد أن الشعر في عصر صدر الاسلام ضعف أو كاد ، حتى إذا ما جاء عصر بني أمية حتى عادت العرب إلى أساليبها القبلية من فخر ومدح ورثاء، إعلاء لشأن القبيلة والأصل والجنس، ولعل من قرأ في سيرة لبيد يجد أنه عاصر المرحلتين، ولكنه في المرحلة الأولى اشد تأثرا ، فجاءت المرحلة الثانية وقد عزف عن حظوظ الدنيا.
خلاصة ما تقدم أن القرآن الكريم باعجازه المتعدد الجوانب ومنها الاعجاز البياني اخرص الشعراء واخضعهم لقوة بيانه، وهم الذين يحتفلون بالشعر والشعراء فيقيمون الأسواق التي تبرز اختياراتهم لشاعر العام، وقصيدة الدهر، على نحو ما قالوا: عن قصيدتي علقمة التميمي سمطا الدهر. أقصد التي مطلعها:
طحا بك قلب في الحسام طروب. بعيد الشباب عصر حان مشيبُ
واختها التي مطلعها:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
فتغير ذلك المفهوم وأصبحت تطربهم الزهروان وغيرهما من الطوال والمثاني والمفضل.


الشعر ، القرآن ، لبيد


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع