مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم
يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (1)
باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM
27/02/2024 القراءات: 448
مشروعية الصيام
فيعتبر الصيام كعبادة دينية متقدم التشريع لدى الأمم الماضية، والأساس في هذا المبحث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو مشروع لمن قبلنا. ومفروض عليهم ومؤكد بالكتابة علينا وعليهم سواء
اتفقت الكيفية أو اختلفت فلكل أمة في فروعها وكيفيات عباداتها شرعة ومنهاج. وقد جاءت صور متنوعة لصيام من قبلنا نورد بعضا منها لا للحصر وللاستقصاء ولكن على سبيل النماذج والأمثلة. فمن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما".
وعنه أنه قال: "أما اليوم الذي أصوم فيه فأتذكر الفقراء، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشكر نعمة الله".
ومن ذلك ما جاء في نوع صيام مريم عليها السلام في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} .
فكان صياما عن الكلام لا إمساكا عن الطعام.
ومن ذلك صيام نبي الله موسى عليه السلام في المواعدة كما قال العلماء عند قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فقالوا قضى أيامها صائما تهيؤا للملاقاة واستعدادا للمناجاة. وعن نبي الله موسى أيضا صيام يوم عاشوراء شكرا لله أن أنجاه الله من فرعون في ذلك اليوم وتوارث اليهود صيامه عنه إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا في الجاهلية يصومونه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكانوا يعظمون الكعبة فيه ويجددون كسوتها.
أما أول مشروعية الصيام في الإسلام فكان هو صيام يوم عاشوراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه سألهم عن السبب في صيامه فقالوا له: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكرا لله فصمناه وها نحن نصومه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه, وأرسل إلى ضواحي المدينة مناديه "من كان صائما فليتم صيامه، ومن لم يكن صائما فليمسك بقية يومه". وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر".
أي ليغاير صيامه صيام اليهود بضم التاسع إلى العاشر، وهنا وقفة وتأمل في كلا الأمرين، صيامه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء كصيام اليهود إياه، وصيامه التاسع مع العاشر مغايرة لهم. ففي الأول موافقة لهم في صومهم وفي الثاني مخالفة لهم بالزيادة عليهم.
والواقع أن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد موافقة اليهود بدليل مخالفته لهم بضم التاسع إليه ولتصريحه صلى الله عليه وسلم بأن السبب في صيامه هو
السبب الذي دعا موسى عليه السلام إلى صومه وهو امتنان الله تعالى عليه بطريق في البحر يبسا ونجاته من فرعون وقومه فصامه شكرا لله وهذا السبب له أهميته وعظيم مدلوله في جميع الأديان وتاريخ الرسل مع الأمم لأنه إعلان وإثبات لانتصار الحق على الباطل في الصراع الدائم على البقاء وإلى الصلاح والإصلاح بصرف النظر عن الأطراف والأشخاص وعن الزمان والمكان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم". كما بين صلى الله عليه وسلم رابطة النبوة بقوله: "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وأبناء العلات هم الإخوة لأب ووحدة الدين في الأصول وفي العقائد فنجاة موسى من عدوه انتصار لدين الله ونبيه. وسواء في المبدأ زمن موسى أو زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنها قضية حق وإظهار عدل. وهذه مبادئ الإسلام والمسلمين.
وإن مما يلفت النظر ويستوقف الباحث هو تعظيم هذا اليوم بصيامه لما أجرى الله فيه من الخير وأن للأمة الاحتفاظ بذكرياتها الجليلة والتعبير عنها بما شرع فيها كالصوم في يوم عاشوراء.
ثم جاء فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقد أشارت نصوص مشروعيته إلى ارتباطه بأعظم مناسبة في هذا الوجود كله هي انبثاق فجر الهداية وإشراقة شمس الرشاد التي بددت ظلمات الجهالة، ومهدت سبل السعادة يقول جبريل عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . فكانت فاتحة الرسالة المحمدية وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} .
فكان جديرا بزمن إنزاله تعظيمه بصيامه وإحياءه بقيامه. لتُجَدِدَ الأمة روابطها بربها، وتوثق عهودها بمبادئ دينها ويبقى على جدته لا تبليه الأعوام ولا توهنه الأيام. وقد جرت حكمة العليم الخبير في مشروعية هذا الركن العظيم فبدأ بالتدرج، أولاً يوم عاشوراء ثم فرض مطلقاً من غير تحديد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} . وإن كانت لم تقيد بعدد إلا أنها مقيدة بجمع القلة أياما معدودات.
شبيه بما في قوله تعالى في مبيع يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} . وكذلك الأيام المعدودات ليهون على النفوس تقبلها، وقد شرع بادئ ذي بدء على التخيير: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .
ثم ألزموا به بعد أن توطنت نفوسهم عليه واطمأنت قلوبهم إليه.
فحددت لهم أيامه وانتفى عنهم التخيير في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وبقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وبجانب ذلك نوافل وسنن من الصيام في مناسبات وملابسات أخرى انفرد بها الصيام عن سائر العبادات ما كان منها عاما وما كان منها خاصا. فمن ذلك صيام يوم عاشوراء وإنه ليكفر سنة كاملة.
ومنها صيام يوم عرفة لمن ليس بعرفات وإنه ليكفر سنة قبله وسنة بعده ومنها صيام الست من شوال وإنها مع رمضان بمثابة صيام الدهر. ومنها صوم يوم الاثنين؛ يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه فيه. وغير ذلك - الأيام المطلقة - كالأيام البيض كل شهر ويوم الخميس ... إلى غير ذلك.
يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ (1)
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع