مدونة أد سعدون أحمد علي جعفر


اللغة العربية عصيَّةٌ على الدُّروس والاضمحلال

أد سعدون أحمد علي جعفر | Dr Saadoon Ahmed Ali


17/12/2022 القراءات: 1903  


اللغةُ العربيَّةُ عصيَّةٌ على الدُّرُوسِ والاضْمِحْلَالِ
أدرك اللغويون العرب القدماء منذ وقت مبكر أهمية اللغة في الاتصال والتواصل ونقل الأفكار والتعبير عن الحاجات والمتطلبات، فحرَصوا على تدوينها وتنظيمها ووضع الضوابط والمعايير التي تحكمها، وأخضعوا ذلك كلَّه للتدقيق والنقد، وأصدروا أحكامهم فيه التي انمازت بالدقة والعمق فأصابوا الهدف في الحكم له أو عليه.
إن استعمال الألفاظ والتراكيب اللغوية للتعبير عن المعاني الذهنية بما يحقق التواصل بين أبناء المجتمعات هو مظهر لغويٌّ منظمٌ يؤكد ارتباطَ اللغة بحياة أفراد المجتمع الذي يتكلم بها، ولا شك في أن هؤلاء تتبدل أحوالهم وتتغير، فيؤثر ذلك في لغتهم، ويجد طريقَه إلى الألفاظ والتراكيب التي يتداولونها في اتصالهم ويعبرون بها عن أحوالهم وحاجاتهم. على أنَّ علماء العربية القدماءَ – بوسائلهم المحدودة - وقفوا على ظاهرة التغير والتبدل، فرصدوها ودرسوا أنماطها، وأصدروا فيها أحكاما، وليست ببعيدة عنا تلك الآراء السديدة والتأملات الدقيقة لعلماء العربية الأفذاذ من مثل: الخليل الفراهيدي(ت175ه) وسيبويه(ت180ه) والكسائي(ت189ه) والفراء(207ه) والمبرِّد(285ه) والزَّجَّاج(ت311ه) وابن السراج(ت316ه) وابن جني (ت392هـ) وغيرِهم، مما يُعدُّ شاهدًا أصيلا على عمق تفكير علماء العربية الأوائل، وسبقهم وتصدرهم في دراساتهم العلمية وأبحاثهم، وريادتهم فيما توصَّلوا إليه من نتائج عضَّدتِ الدراساتُ الحديثةُ صحَّتَها ودقَّتَها.
ومع تطور حياة المجتمعات العربية وتنوعها صار لزامًا على المخلصين من أبنائها أن يوجهوا عملية التغيير لإحداث تنمية لغوية عربية حقيقية مقصودة على وفق خطة علمية مدروسة وموضوعية يضطلع بها المتخصصون بعلوم العربية بما يلبي طموح مجتمعاتنا المعاصرة، ويحافظ على هوية لغتنا العربية ويدفع عنها خطرَ العولمةِ والتغريبِ والدروس والاضمحلال. ومن أجل بلوغ هذا الهدف السامي ينبغي لعلماء العربية أن يفكروا بوسائلَ حيويةٍ تستند إلى المناهج العلمية الحديثة للحفاظ على خصائص هويتنا اللغوية وسماتِ شخصيتها الحضارية، وتنميتِها وتطويرها وتيسير تعليمها، وتكميمِ دعوات تغريبها، ودفعِ طاقاتها للإبداع واللحاق بالأمم المتقدمة؛ منها على سبيل التمثيل: استحداثُ الجديد اللغوي مما بالمجتمعات العربية المعاصرة حاجةٌ إليه، وتحديثُ مناهج التعليم وطرائقِه في مراحل التعليم كلِّها، وإدخالُ التقنيات الحديثة فيه، وسبرُ غور كتب التراث العربيّ والمعجمات اللغوية الكبيرة كاللسان والقاموس وتاج العروس لنفض الغبار عما تزخر به من الألفاظ غير المستعملة لإعادة الحياة إليها وإثرائها بالمصطلحات العلمية والأدبية والفنية بدلا من فتحِ البابِ على مصراعيه لدخول الألفاظ الأعجمية.
إنَّ ما أصاب لغتَنا العربية في أصواتها من تبدل وتغير لا يعدو أصواتَ الضاد والظاء والقاف والجيم, أو التغيرات الجزئية في صفات صوتي الهمزة والطاء، ويرجع حصولُ هذه التبدلات إلى قوانينِ التطور الصوتي التي تتسم بعدم الثبات. ومع أن المجتمع العربي قد تحول من مجتمع القبيلة والقيم الجاهلية إلى مجتمع تسودُه قيمٌ إسلامية جديدة شملت جوانبَ الحياة كلِّها, نلفي أصواتَ العربية الفصحى قد حافظت على أصالتها بنسبة كبيرة, وثبتت على ما كانت عليه عند العرب قبل الاسلام، على أنَّ ما حصل في نظامها الصوتي من تغير أو تبدل لم يكن شيئًا ذا بال, ولعل أوضحَ صوت حصل فيه تغيّرٌ ملموس بسبب تعدد لهجات القبائل العربية واختلاطِ العرب بغيرهم من الأمم هو صوت (الضاد) الذي صار ينطق ( ظاء), وقد تنبه لذلك علماؤنا القدماء والمحدثون فألفوا في التفريق بين الصوتين كُتُبا كثيرة . ويرجع الفضل في ثبات أصوات العربية عموما إلى كتاب الله الحافظ لها، وفي ذلك يقول الدكتور صبحي الصالح: (( والقرآن الكريم بإيجاب ترتيله على نحوٍ خاصٍ كان السببَ الجوهريَّ في احتفاظ لغتنا بأصواتها ثابتةً، وبأنسابها صريحةً، وبحروفها واضحة )) دراسات في فقه اللغة، ص 286.
أما على مستوى الدلالة فيرى علماء اللغة أنَّ نوعًا من التغيّر والتطوّر يعتري بعضَ الألفاظ من حيث تخصيصُ دلالتِها أو تعميمُها أو تغيرُ مجالِ استعمالها، وعدُّوا ذلك من الظواهر اللغوية العامة في اللغات الإنسانية جميعا. إذ يرجع التطور الذي يحصل في دلالات بعض الألفاظ إلى عواملَ اجتماعيةٍ, وسياسيةٍ، وثقافيةٍ, واقتصاديةٍ، وذاتيةٍ تكمن في ذات اللغة، من ذلك ما نُقِلت دلالتُه بالمجاز المرسل بالتوسع في معنى اللفظ أو التخصيص, فلفظ (اللسان) و(الكلمة) و(الحرف), كل منها تدل على وضع له في أصل اللغة, فاللسان العضو النطقي والكلمة والحرف, معروفتان, ولكن إطلاق (اللسان) على ممثل الدولة, أو الجماعة, أو المتحدث الرسمي عنهم واستعمال لفظ (الكلمة) بمعنى الخطبة أو (القصيدة), واستعمال لفظ الحرف بمعنى (الآية القرآنية) أو (المادة اللغوية) من اسم أو فعل عند المعجميين, كلّ ذلك يعني: توسيعَ دائرة دلالة اللفظ وخروجَه من معناه الخاص إلى معنى أعمّ بطريقة المجاز المرسل .
ولعلّ من أشدّ حالات التشويه للسان العربي ما يشيع في عالمنا العربي المعاصر من ازدواج لغويّ بين العربية واللاتينية نتج عنه لغةٌ هجينة تُدمَجُ فيها الأحرف العربية بالأحرف اللاتينية في كلمة واحدة، من مثل قولهم في وسائل التواصل الاجتماعي: (لايكات) بمعنى إعجابات، وهي صيغة جمع مزعوم لـكلمة(Like) في اللغة الإنجليزية، بزيادة لاحقةِ جمعِ المؤنث السالم في العربية (الألف والتاء) على المفرد اللاتيني لتوليد صيغة الجمع الجديدة، ومثلها:(سايتات) و(سلايدات) و(جيرات)،...إلخ، فتولدت بذلك لغة هجينة نخشَى شيوعَها وكثرةَ استعمالها فتكون سببًا في اندثار ألفاظ عربية كثيرة من الاستعمال اللغوي فتؤول ألفاظا مماتة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سبر غور المعجمات العربية القديمة لنفض الغبار عما تزخر به من الألفاظ غير المستعملة وإعادة الحياة إليها بلطف الصنعة،


اللغة العربية، الاستعمال،التغير والتبدل.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع