من بلاغة الدعاء وجوامع الكلم ٢
مسعد عامر سيدون المهري | Musaad Amer Saidoon Almahry
02/06/2020 القراءات: 4775
وما زلنا نستلهم أدعية القرآن، وما فيها من أسرار بلاغية، ونكت لغوية لطيفة، ما يجعلها من جوامع الكلم التي تؤدى فيها المعاني الكثيرة بألفاظ مختصرة وموجزة؛ فالبلاغة هي الإيجاز كما قرر القدماء.
ومن ذلك دعاء سيدنا أيوب عليه السلام حين ألم به المرض، والمتأمل في صيغة دعائه يجد فيها من الجمال الأسلوبي، الذي يقدم عبارات الدعاء بصيغ وألفاظ مختارة تجمع بين أظهار الضعف الإنساني، والشعور الوجداني الصادق. قال تعالى : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص : 41] ننظر الى اختيار كلمة ( نُصب ) وما قامت به من دور دلالي كبير في وصف الحالة ..
يقول ابن جرير عند تفسيره هذه الآية الكريمة : " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (وَاذْكُرْ) أيضا يا محمد عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ) مستغيثا به فيما نزل به من البلاء: يا ربّ (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ) فاختلفت القرّاء في قراءة قوله (بِنُصْبٍ) فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا أبي جعفر القارئ: (بِنُصْبٍ) بضم النون وسكون الصاد، وقرأ ذلك أبو جعفر: بضم النون والصاد كليهما، وقد حُكي عنه بفتح النون والصاد; والنُّصْب والنَّصَب بمنزلة الحُزْن والحَزَن، والعُدم والعَدَم، والرُّشْد والرَّشَد، والصُّلْب والصَّلَب. وكان الفرّاء يقول: إذا ضُمّ أوّله لم يثقل، لأنهم جعلوهما على سِمَتين: إذا فتحوا أوّله ثقّلوا، وإذا ضمّوا أوّله خففوا. قال: وأنشدني بعض العرب:
لَئِنْ بَعَثَتْ أُمُّ الحُمَيْدَيْنِ مائِرًا ... لَقَدْ غَنِيَتْ في غَيرِ بُؤْسٍ ولا جُحدِ
من قولهم: جَحِد عيشه: إذا ضاق واشتدّ; قال: فلما قال جُحْد خَفَّف.
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين: النَّصُب من العذاب. وقال: العرب تقول: أنصبني: عذّبني وبرّح بي. قال: وبعضهم يقول: نَصَبَني، واستشهد لقيله ذلك بقول بشر بن أبي خازم:
تَعَنَّاكَ نَصْب مِن أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ ... كَذِي الشَّجْوِ لَمَّا يَسْلُه وسيَذْهَبُ
وقال: يعني بالنَّصْب: البلاء والشرّ; ومنه قول نابغة بني ذُبيان:
كِلِيني لِهَمّ يا أمَيْمَةَ ناصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطيءِ الكَوَاكِب
) ابن جرير : التفسير ج٢١ ص٢١٠)
فالكلمة القرآنية المفردة تشع معنى وإيحاء، وتصور معاناة سيدنا أيوب مع المرض .. لذلك جاءه الرد الرباني {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص : 42]
راإن في الآية الكريمة علاوة على ما تضمنه من جمال المفردات، في تصوير شدة المعاناة .. نجد جمال التراكيب، واختيار العبارات، والجمل الموحية بصدق العبودية والتذلل لله جل وعلا. ولنقف على بعض ابعادها البلاغية والتربوية .. ولنقف عند قوله : " أني مسّني الشيطان بنصب وعذاب" لما فيها من حسن التعبير والتأدب من الله تعالى اذ أسند الشر الى الشيطان .. وهذا موافق لدعاء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك" يقول ابن عاشور رحمه الله كاشفا عن النكات البلاغية والأسلوبية والتربوية في هذه الجملة: " وَظَاهِرُ إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ أَنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّ أَيُّوبَ بِهِمَا، أَيْ
أَصَابَهُ بِهِمَا حَقِيقَةً مَعَ أَنَّ النُّصْبَ وَالْعَذَابَ هُمَا الْمَاسَّانِ أَيُّوبَ، فَفِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [83] أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ فَأَسْنَدَ الْمَسَّ إِلَى الضُّرِّ، وَالضُّرُّ هُوَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ. وَتَرَدَّدَتْ أَفْهَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى إِسْنَادِ الْمَسِّ بِالنُّصْبِ وَالْعَذَابِ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي بَنِي آدَمَ بِغَيْرِ الْوَسْوَسَةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ مُكَرَّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ مِنَ الْوَسْوَسَةِ وَلَا مِنْ آثَارِهَا. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ تَتَجَاوَزُ الْعَشَرَةَ وَفِي أَكْثَرِهَا سَمَاجَةٌ وَكُلُّهَا مَبْنِيٌّ عَلَى حَمْلِهِمُ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِنُصْبٍ عَلَى أَنَّهَا بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ مَسَّنِيَ، أَوْ بَاءُ الْآلَةِ مِثْلُ: ضَرَبَهُ بالعصا، أَو يؤول النُّصْبُ وَالْعَذَابُ إِلَى مَعْنَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي مِنْ بَابِ أَعْطَىوَالْوَجْهُ عِنْدِي: أَنْ تُحْمَلَ الْبَاءُ عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ بِجَعْلِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ مُسَبِّبَيْنِلِمَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ، أَيْ مَسَّنِي بِوَسْوَاسٍ سَبَبُهُ نُصْبٌ وَعَذَابٌ، فَجَعَلَ الشَّيْطَانُ يُوَسْوِسُ إِلَى أَيُّوبَ بِتَعْظِيمِ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ عِنْدَهُ وَيُلْقِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ الْعَذَابِ لِيُلْقِيَ فِي نَفْسِ أَيُّوبَ سُوءَ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَوِ السُّخْطَ مِنْ ذَلِكَ. أَوْ تُحْمَلُ الْبَاءُ عَلَى الْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مَسَّنِي بِوَسْوَسَةٍ مُصَاحِبَةٍ لِضُرٍّ وَعَذَابٍ، فَفِي قَوْلِ أَيُّوبَ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ كِنَايَةٌ لَطِيفَةٌ عَنْ طَلَبِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرُفِعَ النُّصْبُ وَالْعَذَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُمَا صَارَا مَدْخَلًا لِلِشَّيْطَانِ إِلَى نَفْسِهِ فَطَلَبُ الْعِصْمَةِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يُوسُف: 33]
من هذا العرض يتكشف لنا ما يتضمنه دعاء الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من جمال بلاغي يصدق في وصف المشاعر، وإظهار الضعف والحاجة والفاقة الى الله تبارك وتعالى.
الدعاء ، البلاغة ، الإيجاز
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع