النّقد بين الحداثة وما بعد الحداثة بين الانتصار والتّأزم.
د. سناء بوختاش | Sana boukhtache
21/07/2019 القراءات: 5052
يعدّ مفهوم الحداثة من المصطلحات النّقديّة المعاصرة التي سيطرت على مسيرة المجتمعات الغربيّة منذ زمن، وهذه المسيرة الحداثيّة أصبحت الآن محلّ مراجعة، تحتاج إلى إعادة النّظر حول أهدافها التي خرجت عن مسارها الصّحيح، وجعلت من الإنسان مجرّد هيكل آلي تتحكّم فيه القيّم العقليّة الجاهزة والثّابتة على مدار الزّمن، ليأتي بعدها الغربيّون بوجهة نظر أخرى تندّد بمصطلح جديد هو ما بعد الحداثة، حاولت من خلاله البحث في الأزمة التي خلّفتها الحداثة، وظهرت العديد من الكتب والدّراسات التي اهتمت بهذا المصطلح من بينها كتاب "نقد الحداثة" لـ: ألان توران، وكتاب "سيّاسة ما بعد الحداثة" لـ: ليندا هتشيون، وكتاب "تعليم ما بعد الحداثة" لـ: براندا مرشال وغيرهم من الكتب. وعليه سنحاول من خلال هذا المقال الذي سنشتغل فيه على مسائل الحداثة وما بعد الحداثة الغربيّة، أن نسلّط الضوء على ما يعتري الحداثة من مشكلات، وما هي الانشغالات التي أثارتها ما بعد الحداثة كبديل في الوسط الغربي، وهل فعلا ما بعد الحداثة أخرجت الفكر الغربي من الأزمة؟
أولا: الحداثة المنتصرة: الحداثة هي التي بدأت مع عصر التّنوير، ومع من يملكون وعيّا وبصيرة، انطلاقا من أفق "الأزمنة الجديدة"، التي تشكّل تجديدا مستمرّا، والتي تخصّ ثلاثة قرون جرت فيها تحوّلات هامّة، هي (اكتشاف العالم الجديد، عصر النّهضة، عصر التّنوير). بناء على ذلك أصبح العقل الذي كان المرتكز الأساس لدى أنصار التّنوير، معيار كلّ معرفة وكذا مرجعها الحاسم، كما أصبح قوّة فاعلة في إصدار القرارات، كونه عقل حسابيّ نقديّ وأداتي في الوقت ذاته، وعليه إذا ما أردنا أن نستقرئ أسس الحداثة ومقوّماتها ما علينا إلاّ أن نمثّلها في ثلاثة تحوّلات كبرى هي:
1/ الانتقال من النّزعة الانتاجيّة التّقليديّة الضيّقة، إلى النّزعة الانتاجيّة الواسعة، المرادفة للرّأسماليّة كنظام اقتصادي وبيروقراطي، يقوم على تقسيم العمل الاجتماعي والتّخصّص.
2/ التّماشي مع التّقدم العلمي والتقني، الذي ظهر مع العلوم التّجريبيّة، والطّباعة، والتّعليم، والإعلام والاتّصال، وغيرها.
3/ للنّهضة الفكريّة والاجتماعيّة ـــ السيّاسيّة دور كبير في ظهور الحداثة، حين أدّت إلى الاعتراف بقدرات الإنسان الذّهنيّة وحدّدت حقوقه وواجباته.
وهي الفكرة نفسها التي انطلق منها ماركس فيبر Maximilian Carl Emil Weber) 1864 – 1920)، حين تحدّث عن التّحوّلات التي حدثت على مستوى العقل، والتي أنتجت لنا الحداثة، وهي التي أرجعها إلى:
1/ هاجس التّغيير، الذي لا طالما كان طموح الغربيّين يريدون تحقيقه.
2/ أشكال الحياة التّقليديّة لم تعد تجدي نفعا، لهذا كان يجب البحث عن أشكال جديدة، تتماشى مع العصر.
3/ لا بدّ من تجاوز النّموذج الصناعي البسيط، إلى النّموذج الرّأسمالي المعقّد.
4/ العمل على تسارع نموّ الرّأسماليّة، وظهور كما يقول فيبر "البحث عن النّجوع" – بمعنى الاستجابة للرّغبات والحاجات-، الذي حرّض على النّجاح الفردي.
5/ جمع الثّروة التي أصبحت واجبا ينذر الإنسان نفسه لخدمتها، عن طريق التّقشف والزّهد والادّخار والشّعور بالمسؤوليّة، لمضاعفتها بواسطة العمل الدّؤوب.
ثانيا: الحداثة المتأزّمة (نقد الحداثة أو ما بعد الحداثة): كان "هوركهايمر Max Horkheimer (1895-1973 )، وأدورنو Theodor W. Adorno (1903 - 1969)" أول من طرحا موضوع نقد الحداثة، أثناء اكتشافهما للتّناقض الحاصل بين أفكار عصر التّنوير وتطبيقاتها العلميّة في الواقع الاجتماعي، إضافة إلى انتقال التّفكير العقلاني إلى تفكير أداتي سيطر عليه التّطور التّكنولوجي، الذي حوّل الكائنات البشريّة كما لو كانت أرقاما تديرها إدارة بيروقراطيّة شموليّة، وهو ما قال عنه هابرماس "السّلطة التّقنيّة" لأنّه رغم اعتبار العقل هو من منح الاستقلاليّة للبنيات المعرفيّة، إلاّ أنّه كان أحد وسائل الضّبط والإحباط لما يرافقه من أيديولوجيّة تكنوقراطيّة تقوم بترشيد السّلوك.
هذا يعني أنّ كلّ المرتكزات التي قامت عليها الحداثة أصبحت اليوم مشوّهة، ويعود ذلك إلى تمرّد الإنسان على الطّبيعة باستغلاله لها، وحالة القهر البؤس التي أصبح يعيشها، وهذا يعكس وضع الفلاسفة الذين يبحثون عن الحقيقة المطلقة واللانهائيّة، التي لا وجود لها. ويقول "هوركهايمر" في هذا الصّدد كلّ الطّروحات الغربيّة التي اشتغلت على مصطلح ما بعد الحداثة تخلص إلى أنّه لا وجود لحقيقة مطلقة، وإنّما يقاس محتوى الحقيقة للأفكار الأساسيّة بأصولها الاجتماعيّة التي نشأت عليها.
وخلاصة القول هي إنّ أنصار الكتابة الما بعد حداثيّة حاولوا أن يؤسّسوا لفكرة الحداثة في شكلها الأكثر طموحا وفاعليّة، من خلال إرساء أهداف الحداثة التي كانت تناشد بها في البداية، ويوضحوا المغالطات التي وقعت فيها الحداثة الآن.
النقد - الحداثة - ما بعد الحداثة - الانتصار - التأزم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع