مدونة الدكتور/ جميل أبو العباس زكير بكري
ما لا يسع الباحث فعله أدبيًا وعلميًا
جميل أبو العباس زكير بكري | Gameel Abo Elabass Zakeer Bakry
02/10/2020 القراءات: 4862
ما لا يسع الباحث فعله أدبيًا وعلميًا
في كثير من الأحيان يختلف القُرَّاء والمفسرون في فَهمهم لنص المؤلِف ودلالاته، فأحدهم يصفه بالتطرف إلى أقصى اليمين والثاني بالتطرف إلى أقصى اليسار، وقلَّما تجد ثالثًا يحكم على النص حكمًا موضوعيًا نزيهًا. مرجع ذلك عوامل متعددة ومتباينة؛ منها قيام بعض القُرَّاء بالحكم على النص من منطلق الحكم على شخصيِّة صاحبه، أو مواقفه تجاهه، سواء أكانت بالسلب أم بالإيجاب، أو عدم فهمه للغة المؤلِف نفسه ومفاهيمه ومصطلحاته، إذ لكل مؤلف مصطلحات معينة يستخدمها تشير أو ترمز إلى شيءٍ معين بالنسبة له، أو أنَّه يقوم بمحاكمة النص بناءً على ظروف عصر القارئ أو المفسِّر دون الرجوع لظروف المؤلف نفسه، وهذا يجعله يقوم بقياس الغائب على الشاهد، أو أنَّه لم يُكلف نفسه عناء البحث والتدقيق فأخذ يقرأ النص دون أن يتحرر من قيود ما سمعه أو قراءه عنه.
أو أن يقع القارئ في براثن ما يُسمى بـ"الفهم الذاتي المسبق" الذي يكون لدى المفسر عندما يذهب لتفسير نص من النصوص أو فهمه، إذ دون هذا الفهم المسبق سوف يبقى النص سرًا مُغلقًا لا نستطيع فك طلاسمه. وقد يتسلل هذا الفهم المسبق إلى المفسر منذ بداية حياته ويأتي من مؤثرات عدة منها الواعي ومنها غير الواعي، بعضها يرجع إلى الوراثة، وبعضها الثاني يرجع إلى البيئة، بينما يرجع بعضها الثالث إلى العالم... وهكذا. فعلى سبيل المثال أنا لا أستطيع أن أفهم نصًا في الطب إلا إذا كان لدي معرفةً مسبقةً لهذا الفرع من المعرفة، وكذلك يكون الحال صحيحًا بالنسبة لأي فرع آخر من فروع المعرفة(1).
هنا نستطيع أن نقول: إنه لكي "يفهم" المرء ينبغي أن "يفهم سلفًا"، أن يكون لديه موقف استباق.. وهذا ما يعرف بـ "دائرة الهرمنيوطيقا": فالمرء لا يسعه أن يعرف إلا ما هو مؤهَّل لمعرفته... وفي معرض تفسير "جادامر" لـ" هيدجر" يتناول الأول في كتابه "الحقيقة والمنهج" مسألة المعرفة المسبقة في مواجهتنا مع النصوص فيقول: "إننا لا يمكن أن نقرأ النص إلا بتوقعات معينة؛ أي بإسقاط مسبق. غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبقة باستمرار في ضوء ما يمثل هناك أمامنا. وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مسبق أن تضع أمامها إسقاطًا جديدًا من المعنى. ومن الممكن أن تبزغ الإسقاطات المتنافسة جنبًا إلى جنب إلى أن تغدو وحدة المعنى أكثر وضوحًا ويتبين كيف يمكن أن تترابط الرموز والعالم". وإثر هذا يقول جادامر:"وإدراك أن كل فَهم لابد له من أن يشتمل على بعض "التحيز" أي "المعنى المسبق" هو ما يمنح مشكلة الهرمنيوطيقا زخمها الحقيقي(2).
كما ينبغي على القارئ أو المفسِّر أن لا يحكم على شخصٍ (فيلسوف أو مفكر أو عالم) من خلال كتاب واحد له خاصة في علومنا الإنسانية، إلا في حالة عدم وجود مؤلفات أخرى له؛ لأن هناك ما يسمى بالتطور الفكري للمؤلف؛ فقد أتبنى فكرة رَدَحًا من الزمن ثم أتخلى عنها كليًا أو جزئيًا بعد معرفتي بأمور كانت محجوبةً عني أو غير واضحةٍ بالنسبة لي في فترةٍ ما لأسبابٍ ما، وهذا ما حدث مع كبار الفلاسفة في عالمنا العربي من أمثال: الدكتور زكي نجيب محمود، والدكتور عبد الرحمن بدوي، والدكتور محمد عمارة، وغيرهم.
لذا على الباحث الحقِّ والمُفسِّر المُخلص أن يتحرَّر من كل عوائق الفهم الصحيح للنص حتى يستطيع قراءته قراءة حقيقية كما أراد لها صاحبها، وعليه أن يتبنَّي نظرية موت المؤلف عند قراءته للنص تفسيرًا ونقدًا، وأن يلتزم الموضوعية في قرائته ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
المراجع:
(1) راجع رسالتنا للماجستير: جميل أبو العباس زكير: فلسفة السياسة عند ليو شتراوس، (غير منشورة)، إشراف الأستاذ الدكتور: محمد أحمد السيد، جامعة المنيا، كلية الآداب، 2014، ص34.
(2) عادل مصطفى: فهم الفهم مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2007، ص ص،18،17.
الباحث - النص - المفسر - المؤلف - التطور الفكري - الفهم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
شكرا جزيلا لقبول النشر