مدونة احمد عمر احمد عمر سالم غلاب


خطايا «الخديوي إسماعيل» في رحلته لتحديث مصر

احمد عمر احمد عمر سالم غلاب | ahmed omar ahmed omar salem


6/2/2024 القراءات: 1084  



في الرابعة عشرة من عمره سافر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي إلى فيينا عاصمة النمسا، ليُعالَج من رمد صديدي، فقضى بها عامين، ثم انتقل إلى باريس، لكنه لم يُفتَن بجامعاتها ومصانعها، فلم ينضم إلى جامعة، واكتفى من العلم بقسط ضئيل من علوم الهندسة والرياضة والطبيعة، وهو قدر لا يؤهل لتكوين عقلية ناضجة متكاملة. فتنت باريس إسماعيل بشيء آخر، بجمال شوارعها ومبانيها، فأراد أن ينقل باريس إلى القاهرة
خلال 12 عامًا فقط (ما بين 1863 – 1875) حفر الفلاح المصري وبالسخرة 112 ترعة طولها 8400 ميل، ومدَّ 910 خطوط من السكك الحديدية، و900 ميل من الأسلاك التلغرافية، وشيَّد 430 من الجسور والكباري، و64 مصنعًا للسكر، و15 فنارًا، وأصلح ميناء الإسكندرية، وبنى أرصفة ميناء السويس، وشيَّد ونظَّم شوارع القاهرة وغيرها من المدن.
فما هي الخطايا التي اقترفها إسماعيل
تحديث بالديون
في سبيل حلمه بجعل مصر قطعة من أوروبا استدان إسماعيل، فلم يكن لرءوس الأموال المصرية نصيب في مشاريع إسماعيل الكبرى، لم يقم إسماعيل بتدوير عوائد القطن والإيرادات، واستسهل في المقابل اللجوء إلى الاقتراض.
تولَّى إسماعيل الحكم، وديون مصر 11 مليون جنيه، فتركها وديونها تقترب من مائة مليون جنيه، وفائدة ديون تبلغ 6 ملايين جنيه، في بلد لم تتعد ميزانيته 10 ملايين ونصف مليون في أقصى سنوات الرواج الاقتصادي.
استدان إسماعيل قروضًا بربا فاحش، وفوائد سمسرة باهظة، ثم أنفقها إمَّا لشراء الأراضي والأطيان، أو بناء القصور الفارهة، أو شراء لقب الخديوي من إسطنبول، وشراء تغيير نظام وراثة العرش ليكون لصالح أكبر أنجاله بدلًا من أكبر رجال عائلة محمد علي، أو الاستحواذ على إعجاب ملوك أوروبا في حفل افتتاح قناة السويس.
تحليلًا اقتصاديًّا لديون إسماعيل، ومنه نرى أن عاهل مصر أنفق 16 مليون جنيه في قناة السويس، 40 مليونًا في الأعمال العامة، 22 مليونًا خسارة إصدار القروض، 20 مليونًا غير واضحة الأغراض التي أُنفقت فيها، ليبلغ المجموع الإجمالي 98 مليونًا.
غالبية قروض إسماعيل أُنفقت على أعمال لم تكن ضرورية، كالحصول على فرمانات وإقامة الحفلات وإنشاء القصور، وغيرها من الأعمال التي لا تأتي بأي إيراد مالي يمكن أن يُسدَّد منه فوائد الدين وأقساطها، وضاع جزء كبير من القروض كمصروفات سمسرة، ولم تستفد مصر إلا بأقل من نصف المبالغ المقترضة، وهو ما أُنفق على الأعمال العامة.
الأجانب
أخطأ إسماعيل للمرة الثانية في تنحية أهل مصر، والاعتماد على الأجانب والشركات الأجنبية في تنفيذ مشروعاته، وهؤلاء لم يكونوا أبدًا من المخلصين، بل ثُلة من اللصوص والأفاقين. الكتابات الأوروبية نفسها تصفهم بأنهم «حثالة أوروبا» التي قذفت بها أمواج شمال البحر المتوسط إلى شاطئ الإسكندرية، وأنهم «من المشبوهين وأرباب السوابق».
من الأمثلة على خسة أولئك الأجانب أنهم قدَّروا تكاليف الإنشاءات بأضعاف تكلفتها الفعلية. أخذ منْ تعهَّدوا لإسماعيل بإنشاء مرفأ الإسكندرية 80% فوق ما يستحقون، وأخذ منْ كانوا يمدون السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقه العمل، وكذلك فعل منْ أقاموا معامل السكر وآلات جلب المياه وغيرها.
وبعد 12 عامًا من حكم إسماعيل بلغت ديون مصر نحو 100 مليون جنيه، استفادت من 40 مليون جنيه فقط في الأعمال العامة، وذهب 20 مليونًا للدائنين ووكلائهم على هيئة سمسرة، وتكاليف أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
الأوبرا والمصريين
أخطأ إسماعيل حينما تملَّك فؤاده شغف بزخرف الحياة الأوروبية، ففي محاولته لتحديث مصر اهتم بالقشرة الخارجية، دون أن يوجِّه نفس القدر إلى «تمدين الشعب».
أراد إسماعيل أن يجعل «مصر قطعة من أوروبا». لم تكن مصر التي يريدها إلا القاهرة، ولم تكن القاهرة إلا منطقتي الجزيرة وحي الأزبكية. منح إسماعيل الأراضي بالمجان لمن يلتزم ببناء منزل لا تقل تكلفته عن 30 ألف فرنك، وهو ما يعني بالضرورة منحها للأثرياء، فاختفت حواري الفقراء والشوارع الضيقة، وحلَّت محلها قصور الأثرياء على الطراز الأوروبي والحدائق والشوارع العريضة.
بنى دارًا للأوبرا في حي الأزبكية على الطراز الفرنسي. وصارت المياه المعدنية في حمامات حلوان وصفة أوروبية لعلاج الأرستقراطيين من التخمة، فمدَّ لها خطًّا حديديًّا يربطها بالقاهرة.
نازع القاهرة الخديوية عملية التحديث على النمط الأوروبي مدينتا الإسماعيلية والإسكندرية، وتحديدًا «حي الرمل»، ضاحية تُزيِّنها الحدائق الغناء، مؤهلة لسكنى رجال القطن الأوروبيين الأثرياء.
اقتصاد تابع
في أبريل/نيسان 1861 اشتعلت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بين ولايات الجنوب الزراعية وولايات الشمال الصناعية. جنَّدت 11 ولاية جنوبية كل رجل بين الرابعة العشرة والخامسة والخمسين، فلم تزرع من القطن إلا قليلًا، وحتى هذا القليل منع الأسطول البحري للولايات الشمالية وصوله إلى أسواق أوروبا، فاشتدت الحاجة إلى القطن في الغرب، وبدأت «حمى القطن» في مصر، لم يعد للناس من حديث إلا عن الذهب الأبيض، الذي ارتفع ثمنه من جنيهين إلى 9 جنيهات.
رغم الرواج، لم يستفد إسماعيل وكبار الملاك من عوائده المالية، فالمشروعات التي عرفتها مصر آنذاك استهدفت مصالح أوروبا. تنمية تابعة لا تنمية مستقلة. فالترع التي حُفرت لري الأراضي المزروعة بالقطن، والمحالج لكي تهيئ المحصول للتصدير، والسكك الحديدية لنقله من مناطق زراعته إلى موانئ التصدير، والخطوط التلغرافية لربط البلاد بأوروبا.
المراجع
عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، الجزء الأول، الطبعة الثانية، 1948، مكتبة النهضة المصرية، ص 69 “نشأة إسماعيل”.
أحمد رشدي صالح، دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي، سلسلة تاريخ المصريين، ص 6، 20. محمد فهمي لهيطه، تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة، ص 318، وهو يري أن هذه الإنشاءات هي الوحيدة التي استفادت منها البلاد من الديون التي غرق فيها إسماعيل.


مقالة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع