مدونة أ.د.عبد الكريم حسين رعدان
الزمن بين الاستغلال الحضاري والضياع .. قراءة تأملية
أ.د.عبد الكريم حسين علي رعدان | PROFESSOR /Abdulkreem Hussein Ali Raadan
11/27/2020 القراءات: 4121
يروى أن أحد الملوك أوعز إلى أحـد الكتاب أن يجمع له مؤلفاً شاملا مفصلاًً عن التاريخ. فذهب ذلك الكاتب وعاد بعد عشر سنوات ومعه من الكتب حمل بعير. فقال له الملك: أنت ترى ما نحن فيه من الانشغال بأمر السياسة وتصريف شؤون الرعية فاذهب واختصر لنا هذه المجلدات. فذهب الكاتب وعاد بعد عام يحمل خمسة مجلدات. فقال له الملك: إنني على هذا العمر غير قادر على قراءة هذه المجلدات كلها، فلو جمعتها في مجلد واحد لسهل قراءته، فغاب الكاتب ثم عاد بعد عام ومعه مجلد واحد، فوجد الملك على سرير المرض وقدم له الكتاب. فقال الملك: أنت تعلم أنني على فراش الموت فأوجز لي ما في هذه الكتب. فقال الكاتب: "وُلِدُوا وعاشوا ثم ماتوا".
خلاصة دقيقة لزمن ماض لم يتوقف عند هذا الملك.. وبقيت عجلته دائرة: " ولدوا وعاشوا ثم ماتوا ..
أريد أن أقول: إن الإنسان الراكب على ظهر الزمن قد لا يحس بالتغيرات التي يحدثها الزمن في حياته المادية والفكرية والثقافية، فقد يفعل الزمن فعله في جسمه ويحفر أخاديد رهيبة في وجهه الناضر دون أن يشعر بذلك، رغم أنه ينظر إلى وجهه في المرآة كل صباح ويظن أنه باقٍ على ما هو عليه لم يتغير.
لو قابلك إنسان غاب عنك بضع سنين لم تره فيها فستأخذه وتأخذك الدهشة وهو يصف لك التغيرات التي طرأت في ملامح وجهك وشعرك وشكلك؛ سيدرك ذلك الغائب تلك التغيرات ويتأملها آخذاً تأوهات عميقة وهو يسترجع الذكريات التي أحالتها الأيام إلى تجاعيد.
أما لو عاد الإنسان إلى صوره الفوتغرافية التي التقطها قبل عشرين سنة في مواقف حياتية ومناسبات جميلة لازدحمت في رأسه الخيالات، ولخنقته العبرات نتيجة لما سيجده من تغيرات وفروق هائلة بين تلك السنين الخوالي، واللحظة الراهنة التي يعيشها!
هكذا هو الزمن.. وهكذا هو الإنسان؛ يظن أنه واقف لا يتحرك بينما هو في الحقيقة كتلة من الدقائق والساعات والأيام، تتحرك وتمضي باستمرار دون توقف، تحترق معها خلاياه وتشيخ، وتتآكل أعضاؤه في تدرج نحـو الفناء المحتوم: كلُّ منْ عليها فانٍ * ويبقى وجه ربك ذو الجلال ولإكرام الرحمن 26، 27.
ولعل فطرة متأصلة في الإنسان تجاه مرور الزمن عندما يغض الطرف عن ذلك، تجعله يتعالى على واقعه الزمني.. حتى على مستوى الأجيال.. يدعي كل جيل لاحق بأنه أفضل من الجيل السابق، وأن مستوى الأجيال السابقة أقل من مستوى الأجيال اللاحقة .. ويُتناسى أن الكل متساوون في دائرة الزمن.
إن من طبيعة الزمن أنه لا يحابي أحداً فهو - كما قيل - نهر يتدفق في مجرى الحياة لا يستطيع أحد احتكاره، مَثَلُه كمثل الهواء أو الماء.. وكل يأخذ منه ويكسب..
غير أننا نرى الزمان يبخل على الكثير ويحصرهم في أضيق الزوايا، بينما يُفرد مساحات واسعة من صفحاته لبعض الأفراد والجماعات والأجيال – سواء في الجانب السلبي أو الجانب الإيجابي – ففي الجانب الإيجابي مثلاً نجد الأنبياء قد أفرد لهم التاريخ مدداً زمنية طويلة امتدت لأجيال وأجيال بعد مماتهم، فقد كانوا أحرص الناس على استغلاله وزرعه بتعاليم الحق الإلهي الذي يوجه الإنسانية إلى الخير والعدل والسعادة، ولـذلك لا زال ذكـر هؤلاء الأنبياء قـائماً إلى أن تقـوم الساعة: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي اَلأيْدِي وَالأبْصَارِ ص45. وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً مريم51. وقال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً مريم56.
وهكذا الأنبياء كلهم حتى محمد وأصحابه العظام الذين كانت لهم مساحة أوسع في البناء وتعمير الحياة وهداية بني الإنسان: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً الفتح29.
وفي الجانب السلبي نجد أفرادا وأمماً كانت لهم جولات في الزمان؛ مثل عاد وثمود وفرعون وهامان وغيرهم قال تعالى عنهم: وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ* وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ".
الزمن، الاستغلال ، الحضاري، تأملية
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع