مدونة الشاعر والناقد عبد الله هريدي


القصة الشاعرة من العبارة إلى الإشارة -ج2

عبد الله رمضان خلف مرسي | Abdullah Ramadan Khalaf Morsy


6/16/2021 القراءات: 4351  


وتبعا لطبيعة النص الذي تكثر فيه الصور والأحداث المكثفة، والإسناد العجائبي، لا يستطيع الناقد مهما أوتي من قوة أدوات ورصانة منهج وتعدد ثقافات أن يصل إلى مقصد الشاعر على النحو الذي يخبرنا ماذا أراد أن يقول الشاعر، بل المقاربة قد تصل بنا إلى الإحساس بالنص، تلمس جمالياته، ولعل التفكيك على مستوى الأجزاء الأصغر يمكننا من امتصاص رحيق الجمال في النص.
النص هنا أقرب إلى المعزوفة الموسيقية التي تستمتع بجمال إيقاعها وتنفعل بتموجاتها دون أن اهتمام بالبحث عن دلالات فكرية أو عقلية، هي تحيط سمعك بإيقاعها، تخاطب الشعور والعاطفة، النص أقرب إلى ذلك في تقديري، يخاطب المشاعر، ويثير الخيال، ومن ثم يحتفظ بالكثير من جماله.
في قول الشحات: "مائدة الحصن"، المائدة معروفة، والحصن معروف، كيف إذن يجتمعان في تركيب على هذا النحو؟ أي مائدة هذه التي تضاف إلى حصن؟ الصورة غريبة؛ لكن ربما تزول الغرابة عندما نتأمل باقي التراكيب: "إمارات الحلال" هكذا قال، لكن وقد ووضع كلمة الحلال بين تنصيص، فكأنه يريد كلمة الحرام بدلا من الحلال على سبيل الإيماء بمعكوس الكلمة.
"اتفاقية أغصان التمني" التمني له أغصان!! وأضيف كل ذلك إلى كلمة "اتفاقية" ما هذه العجائبية إذن، كل تركيب يزيد الأمر حيرة.
تطل كلمة الإمارات مرة أخرى برأسها، مضافة إلى فراعين هذه المرة: "فراعين الإمارات" ولا نحجر على المبدع في توجيه الكلمة إلى بلد معين، فالكلمة هنا حرة دالة على مطلق الإمارة، وليس بالضرورة إسقاطها على بلد معين يسمى بهذه التسمية، وهي مضافة إلى "فراعين" وكافة التراكيب تتجلى فيها هذه العجائبية التصويرية، كقوله: ضفدعة العاشر، وشرايين النهى.
وتطل الإشارات التناصية البارعة برأسها خاطفة النظر نحوها، نلحظها في:
ناداه ابن نوح فاستقل النهر من أعلى جبال النور حتى وقع الناس
في النص القرآني نوح هو الذي نادى ابنه (يا بني اركب معنا)، ومعادل النهر هناك الطوفان، وجبال النور هنا يعادلها في القرآن الكريم (الجودي).
حاضر هو الأثر القرآني والإسقاط الذي يبدو معكوسا، ومن قبيل التناص مع أشخاص وأحداث إيراده لأعلام ارتبطت بمصر من خلال أحداث كبرى، هنا استدعى شخصية جولدا مائير، عدوة مصر، التي حقق جيشنا البطل النصر عليها وعلى قومها، وذلك في قوله:
فانهارتْ مِنَ الأشلاءِ جولدا..
هنا بث للأمل، واستحضار لساعة الانتصار الأهم في تاريخ مصر الحديث، وإشارة إلى هزيمة العدو الأخطر، فما بالنا بمن دونه من الأعداء؟!
النص إذن يمكننا أن نسقطه على مصر وما تعانيه من تحديات، وهذه التحديات متشعبة، داخلية وخارجية، وأخطرها هو محاولة التعطيش التي تمارسها بعض الدول ببناء السدود بدعم من قوى الاستعمار الغربي، وبعض دول الجوار العربي، وهي مأساة أن يجتمع عليك القريب والبعيد، لكن يظل النصر ملوحا، لما لمصر من قوة وإرادة، وإبهار، يمكننا أن نفهم النص على هذا النحو إن أردنا تبسيطا، ويمكننا أن نستغرق أكثر وأكثر لنفك شفرات الرموز، التي ستعطينا في كل مرة قراءة مختلفة، وهي سمة من سمات الإبداع الأصيل، وأصالة الإبداع هنا ليست مرادفا للقدم أو الكلاسيكية، بل المقصد هو الإبداع الذي يستحق هذا الوصف.
وفي نص بعنوان: ثورة الصديق. يقول الشحات:
هنا تمّتْ ..،
توالتْ في المدَى ثوْراتُ قيْسِ الجبِّ،
فاخترقت زُليخُ الحُلْمَ،
شَقّتْ صدْر ليْلَتِه،
فَكُنتُ أنا
في البدء كان تمام الحكاية، "هنا تمت" وفي خاتمتها كان هو "فكنت أنا" من طرف خفي يستدعي النص المقدس، "في البدء كان الكلمة"، في البدء كان الشاعر المبدع، و"هو" تشكل من الحب، وتكون من حكايات العشاق، واستوى من روح الجمال، وأنفاس الروح، ثورات قيس الجب التي توالت في المدى، جمع بديع بين قيس ليلى أو لبنى، وبين يوسف الصديق في الجب، دلت على يوسف "الجب"، أو إن قيسا لاقى ما لاقاه يوسف، حين ألقوه في الجب، والجب هنا إشارة إلى الحب أو الجنون الذي كان فيه قيس، تحول الجب من حفرة مادية موحشة إلى استغراق معنوي في جنون الحب، وتيه العشق.
وزليخة في النص تخترق الحب، تنجح في مراودتها لقيس وليس يوسف، لأن قيسا في الاستدعاء استحوذ على جب يوسف -وإن كان كما ذكرنا جبا معنويا- وفي شقها لصدر الليلة كان الشاعر، وهل يولد الشاعر المبدع إلا من رحم الليل، وماء القمر، وأنفاس السكون!
استدعاءات وتناص ومفارقات وإدهاش وعكس للأدوار بديع، كل ذلك في نص قصير مركز تركيز العطر، ومعتق تعتيق الخمر.


هريدي، أدب، نقد، شعر، تعليم، قصة، شاعرة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع