مدونة .. أ. د. خالد عبد القادر منصور التومي


الكلمة الطيبة .. سياسة المُتكلم و دبلوماسية المعنى و رسول المضمون (الجزء الثالث)

أ.د. خالد عبد القادر منصور التومي | Prof. Dr. Khaled A. Mansur Tumi


5/10/2019 القراءات: 4132  


السلام عليكم و رحمة الله ،،،

الكلمة الطيبة .. سياسة المُتكلم و دبلوماسية المعنى و رسول المضمون ،،،

أخوتي الأعزاء ،،

أسعد الله يومكم بكل خير ،

فإذا كانت الحقيقة التي نُريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحُجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين .. بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل؛ بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه .. أما الحقيقة العلمية الكونية أو العقدية أو الفقهية .. فينبغي أن تُصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد؛ كما أن في ذلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة.

فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً أو أوقعته في الريبة مع سلامة قصده، و فتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قِبل له به.

و هذا من خصائص لغة العصر؛ إذ تتمخض عن تلاطم الأفكار و الثقافات المختلفة من قناعات و مفاهيم عند الناس، و هذه المفاهيم قد تكون صحيحة، و قد لا تكون .. لأنها لا ترتكز في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات الثقافية و الفكرية، و هذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس؛ مما يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك التركيب؛ و حينئذ فإن مُرسل تلك الكلمة .. الكلمة الطيبة .. مُطالب بمعرفة تلك القناعات و المفاهيم؛ كما أنه مُطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم.

4. كيف نمتلك لغة العصر ..

في العالم اليوم ما يُسمى بثورة المعلومات مما يفرض على المثقف أن يرسم لنفسه خطة تثقيفية خاصة تناسب رغباته و اختصاصه العلمي، و المهمة التي ندب نفسه لها، و المشكلة الكبرى في عزوف كثير من الناس عن القراءة .. فأمة ( اقرأ ) ما عادت تقرأ .. مما خلق نوعاً من الخلخلة الثقافية في ساحتنا الفكرية، و جعل كثيراً من أهل الخير عاجزين عن فهم لغة العصر، و إذا عزم المرء على القراءة فلابد له من القراءة الواسعة في شتى أنواع المطبوعات، و عليه أن يقرأ لكل المدارس حتى لا يقع فريسة للانغلاق الفكري أو ضحية للأفكار الفقيرة التي تظهر في أساليب شتى .. و لابد لمن يريد أن يسير في طريق الانفتاح الثقافي من ثقافة أساسية يتمكن بها من تحديد الثوابت التي أكبر فضائلها دوامها و استقرارها؛ حتى لا ينجرف مع نتاج المدارس و التيارات التي يقرأ لها .. كما لابد له من محاولة امتلاك منهج في التفكير يستند إلى وعي صحيح بأحداث الماضي، و وعي جيد لظروف الحاضر، حتى يتمكن من امتلاك رؤية واضحة لكيفية عمل سنن الله في الأنفس و الآفاق .. إن الذي يمتلك شذرات من المعلومات كمن يمتلك قطعاً من الذهب .. أما الذي يمتلك منهجاً ذا نماذج خاصة فإنه يمتلك مفتاح منجم من الذهب .. فإذا حصل على هذا و ذاك فإن الانفتاح في الاطلاع يكون خيراً كله، و حينئذ يتجاوز مرحلة السيطرة على اللغة ليصبح من موجديها و مؤهليها، و لكن لابد قبل الانهماك في القراءة من اختيار ما نقرأ .. فلنقرأ للعباقرة و لأولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة و الذين لا يدفعون بكتابهم إلى المطبعة إلا بعد الاعتقاد بأنه يشكل إضافة جديدة للفكر الإنساني.

5. دوام نفع الكلمة الطيبة ..

إن الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار، و ديمومة عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين .. ثبات الجذور و بسوق فروعها في جو السماء .. و الكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً؛ كذلك الأفكار التي تبثها قصيرة العمر كزهور الربيع .. و الكلمة التي لا تنسجم مع لغة العصر لا تستطيع ملامسة أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه، و الذي وصفناه بأنه بالغ التعقيد، و قد ملكتنا هذه الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة، و هذا المقياس هو أنها .. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ .. فنحن إذا أردنا من هذا المنظور أن نقيس أداء مهمة الإنسان السوي المسلم .. هو .. أن يعيش عصره و يكون مؤثراً لا متأثراً، و أن يكون له دور في صياغة لغة العصر الذي يعيشه .. و أيضاً في قول اللَّه تعالى .. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .. فاطر 10 ..، هذا لأن الكلمةُ هي انعكاسٌ لِما في العقل و القلب، و لهذا يرتقي بالكلمة أشخاص و يسقط آخرون .. فهي ليست مجرد كلمة .. و إنما هي تعكس ما وراءها من الإيمان أو الكفر، و من المحبة أو البغض، و من البر و الوفاء أو العقوق و الجفاء.

نعم إن الحق و النور ثابتٌ في الخلق كُله، و هو في فطرة الإنسان ثابتٌ أصيل؛ لكن الهوى هو الذي يجعله عن الحق و النور يميل، و لهذا أرسل إليه الله الرُسل ليعود إلى سبيل الله الجليل، و ليتبع الحق و يستنير بنور الله الجميل .. فإذا استجاب .. استقام سامياً رفيعاً ثابتاً منيفاً مثمراً مرعياً؛ يُعطي كل حينٍ بلا انقطاع، و يجتني جناه كل المحتاجين بلا نزاع، و ثماره في كل حالٍ طيبة اليناع؛ يتمتع بها كل واحدٍ أجمل متاع .. هكذا هو المؤمن المُتبع للمرسلين، و هكذا هو موكب المؤمنين السائرين على صراط رب العالمين؛ عطاءٌ بلا توقف، و ارتفاعٌ و شرف و سموٌّ عن كل ما يؤسف .. و بهذا العطاء يزداد الموكب طيباً و جمالاً، و يزيد سمواً و جلالاً؛ لأن شكره لربه يتوالا، و قد تعهد الله لهم بالزيادة و أذن سبحانه فقال .. لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ .. إبراهيم 7 ..، و هنا لا بد أن نوقن بأن المؤمن يزداد كلما أيقن، و يعلو كلما اطمأن، و يثبت كلما شكر المنن .. فالنعمة تبقى للشاكرين، و البركات تثرى للذاكرين .. فلنكن من الشاكرين الذاكرين.

جزيل الشكر مع عظيم الامتنان.


الكلمة الطيبة، سياسة المتكلم، دبلوماسية المعنى.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع