مدونة محمد تقي بن رحيم الدين


كلمات عن تعدد المناهج في نقد الحديث: انطباعات عن كتاب "التحديث بأصول الحديث" -غير المطبوع-.

محمد تقي بن رحيم الدين | Mohammad Taqi


4/2/2022 القراءات: 2428  



الاختلاف في منهج النقد الحديثي بين سلف أهل الفن الذين مضوا قبل المئتين، وبين خلف أهل النقد المتممين لبناء الصرح الحديثي: اختلافٌ مقرر في موضعه، ولا مجال لإنكاره، ومنهج السابقين الأوَّلين يُعرف بمنهج الفقهاء أو منهج السلَف، كما أن منهج أئمة النقد بعد المئتين يُعرف بمنهج المحدِّثين أو منهج الخلَف، ولا يمَسُّ هذا الاختلاف الاجتهاديُّ بقاعدة اخْتصاص الفن بأهل الفن، كما لا يمس أيضا بالأسس والمنطلقات الثابتة التي يدور حولها رحى علم النقد بلا خلاف.

ولكل من المنهجين خلفيته وجدارته، علميا وتاريخيا، ويتميز منهج السلف بأنه قد تأسس عليه الفقه الإسلامي –وخاصة الفقه الحنفي والمالكي- في أول عهده خلال قرون الخير، كما أن منهج الخلف نشأ تلبيةً لحاجة الظرف الجديد، وثبت حصنا حصينا لعلوم الحديث، وتفرعت عليه فروعها وشعبها.

والأمر المؤلم هو تحكيم المنهج الثاني حتى في الفقهيات على أهل المنهج الأول، وهذا بمنزلة محاكمة المرأ إلى ما لم يلتزمه هو، وقد نشأت هذه الظاهرة الفجة من جراء إهمال المنهج الأول في مجال التأصيل الحديثي، ونظرا إلى خطورة هذه الظاهرة تصدى كثير من أعلامنا لإبراز منهج أبي حنيفة رضي الله عنه في النقد في تآليف مستقلة تأصيلا وتطبيقا.

ولكن جل أو كل تلك التآليف نحت منحى التذييل والترقيع، حيث طرحتْ منهجَ الحنفية لا على الاستقلال، كمنهج علمي وتاريخي له أصوله ومعاييره –أعني في إطار الاجتهاد الحديثي-؛ بل المنهج فيها -في الواقع- هو منهج الخلَف لا غير، ولكن ببعض تغيير وتبديل حسب مقتضيات منهج السلف!

ومن هنا كانت الحاجة ماسَّة إلى تأليف مختصر جامع في علوم الحديث على منهج السلف في النقد، فقام بهذا المشروع وهذا الواجب: شيخُنا ومولانا فضيلة الأستاذ عبد الله نجيب حفظه الله ونفع به، وهذا الكتاب (التحديث بأصول الحديث) طليعة هذه السلسلة المباركة، وقد بلغ المجلد الأول منه 574 صفحة، ولا يزال غير مطبوع، يجري تصحيحه وتنقيحه، ومع ذلك يستفيد منه الطلبة ويتناقلونه بالتصوير في حدود الجامعة.

وقد سعدتُ بمذاكرة شيخنا كثيرا في هذا الموضوع، واستفدت منه استفادة جمة، كما سنحت لي الفرصة لمراجعة مسوَّدته قبل سنة، وقد أفادتني في ترتيب بعض المباحث من كتابي حول العرف والعادة –غير المطبوع-.

وأخيرا أقتبس لكم من مقدمة المسوَّدة ما يعرفكم بالكتاب:
"أعددت هذه المجموعة -بعون الله وتوفيقه- لنفسي ولإخوتي الطلبة، كمذكرة في أصول الحديث على منهج السلف -أعني منهج الأئمة المجتهدين الفقهاء-، وقد حاولت فيها عرض منهجهم في نقد الحديث كمنهج شامل مستقل، لا مذيَّلاً على منهج الخلف -أعني منهج المحدِّثين المتأخرين عن زمن السلف- ومرقَّعًا به، كما يعتاده معظم من يعتني بإبراز منهج السلف والموازنة بينه وبين منهج الخلف.
تعرَّضَتْ هذه المذكرةُ للوَحَدات المهمة في علوم الحديث، ومن ثم احتوت على:
(١) الأصول المشتركة بين منهجي السلف والخلف.
(٢) والأصول التي ينفرد بها منهج السلف، سواء كانت منقولة عن أئمة السلف، أو مخرَّجة على مداركهم وأصولهم.
وقد اخترت فيها صياغة جديدة للمباحث، تيسيرًا للعرض وتسهيلًا على الطلبة، ومن ثم اختلف الأسلوب والتعبير أحيانا عما هو معهود وشائع، فليتذكر الطالب أثناء مطالعتها ما قاله الإمام الكشميري:
يا من يؤمِّل أن تكو --- له سمات قبوله
خذ بالأصول ومن نصو --- صِ نبيه ورسوله
وخذ الكلام بغوره --- لا عرضه أو طوله
والمجموعة لا تزال مسوَّدة، يجري مراجعتها وتصحيحها، ولم يتم تنقيحها نهائيا، وهي بحاجة إلى نظر أهل الفن ومراجعتهم.
وفقنا الله لتنقيحها بعونه وفضله، وتقبلها منا برحمته وكرمه...".

هذا، والكتاب في مجمله يهدف إلى غرض علمي سامٍ، ولكن الإشادة به ككل لا يعني الاتفاق مع كل ما فيه، ويبدو أن الكتاب بحاجة إلى مناقشة ومراجعة مستمرتين، حتى لا يبق أي خلل جليّ فيه مضمونا وتعبيرا، والله تعالى ولي التوفيق والقبول.


أصول، مناهج، الحنفية، المالكية، علوم الحديث، أصول الحديث، اختلاف


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


يلاحظ أن مناهج أهل السنة في النقد عبارة عن اتجاهات وسمات بارزة، وقد نشأت من الاختلاف الاجتهادي السائغ المقرر من لدن الجيل الأول للإسلام، واتجاهات أهل السنة بمجملها تمثل منهج أهل الفن/ المحدثين في النقد، ولا يعني خرم ذلك المنهج المتوحد الشامل في إطاره الأوسع، ولا علاقة لهذا الاختلاف المبارك بدعاوى الفرق الإسلامية الضالة التي حادت عن منهج المحدثين -بمعناه الأوسع- في النقد. وقد أشرت مرارا إلى هذه النقطة أثناء المنشور، حتى لا يظن أن هنا اختلافا أساسيا جدا في المنهج خارج دائرة الاجتهاد المسوغ، وحتى لا يستغله دعاة الضلال، فقلت مثلا: "ولا يمَسُّ هذا الاختلاف الاجتهاديُّ بقاعدة اخْتصاص الفن بأهل الفن، كما لا يمس أيضا بالأسس والمنطلقات الثابتة التي يدور حولها رحى علم النقد بلا خلاف". وفي العبارة المذكورة أمور كثيرة يجب ملاحظتها ووضعها في الحسبان.