العدد التاسع مقالات

تنبيه النبيه على قولهم: هذا شعر فقيه / مقالات

2/18/2021


 

فمن المقولات التي يتناقلها أهل الأدب ويقولونها في حق من استشعروا في شعره عدم الشاعرية ويتهمونه بالضعف قولهم: "هذا شعر فقيه"، ولعل هذه المقولة أول من تشبث بها ابن خلدون، حيث قال كلامًا خلاصته: "إن أهل الصناعات يشتغلون بصناعاتهم وتسيطر عليهم مصطلحاتهم"، وكان تعليقه هذا على قصة قدمها في مقدمته، خلاصتها أن أبا القاسم بن رضوان ألتقى أبا الحسن الجزنائي فأنشده:

لم أدر حين وقفت بالأطلال         ما الفرق بين قديمها والبالي

فقال أبو الحسن على البديهة: "هذا شعر فقيه"، فلما سأله عن سبب ذلك، قال قوله: "ما الفرق"، وهذا مصطلح يستعمله الفقهاء ، وهذا الكلام لا ينبغي التسليم له على وجه التعميم؛ فالإنسان ذات يكتسب صفة أو أكثر، فلا يستغرب أن يجمع بين علوم متعددة، وكذلك فمن الفقهاء من شهد لهم النقاد والشعراء بشاعريتهم، وعلى النقيض فمن الشعراء من شهد النقاد بعدم شاعرية بعض أبياتهم، فهذا أبو العتاهية لم يستحسن قوله:

يا عتب الساعة الساعة   أموت الساعة الساعة

وأما استدلالهم بقول الشافعي:

ولولا الشعر بالعلماء يزري   لكنت اليوم أشعر من لبيد

فالبيت منتزع من سياقه  فقد ساقه الشافعي لما قيل له إن أصحاب أبي حنيفة فصحاء، فارتجل البيت على البديهة وكذلك لعله يقصد مَنْ تفرغ للشعر، فمن هنا يتضح أنه ليس كل شعر الفقهاء ضعيف، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى، فعروة بن أذينة كان من شيوخ مالك وهو صاحب القصيدة التي مطلعها:

إنّ الّتى زعمت فؤادك ملّها      خلقت هواك كما خلقت هوى لّها

وشهد النقاد بشاعريته، والقاضي عياض أبياته التي حيرت النقاد لا سيما بيتي الرقمتين وما فيهما من براعة استعمال الحقيقة والمجاز في آن واحد بتداخل عجيب،ومنهم أيضا أبو محمد بن حزم، ومن ذلك قوله:

وأستلذ بلائي فيك يا أملي ** ولست عنك مدى الأيام انصرف 

إن قيل لي تتسلى عن مودته **  فما جوابي إلا اللام والألف 

بل لقد شهد شاعر من أفضل الشعراء في زمانه وكل زمان، وهو أبو العلاء المعري أحمد بن سليمان للقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي بجودة شعره، بل شبهه بامرئ القيس حيث قال لما وفد عليه القاضي عبد الوهاب وضايفه أبو العلاء في بيته:

والمالكي بن نصر زار من سفر  ** بلادنا فحمدنا النأي والسفر 

إذا تفقه أحيا مالكا جدلا** وينشر الملك الضليل إن شعرا

والقاضي فقيه مالكي  له ديوان مطبوع ينبئك بأنه شاعر مطبوع، فهذه شهادة أبي العلاء بشاعرية القاضي؛ فالنقاد يعرفون أبا العلاء وكفى بشهادته في هذا المقام فخرا وإعلاء.

والشعراء الفقهاء لا يحصيهم عد، فكيف يقال عن شعرهم ضعيف، وأصحاب هذه الدعوى هل يعرفونهم أو قرأوا عنهم؟ أم هي مجرد سطحيات في الحكم وضبابية في الرؤية وهامشية غير مستحسنة  فينبغي للناقد البصير أن تهمه العبارة ويشغله رقة التعبير وحسن الصناعة وجمال الصورة، بغض النظر عن القائل، وأن ينظر في الشعر بغض النظر عن قائله، وأن يتوقف عن العوميات، ولا يكون كحاطب ليل في النقولات، وإلا فهذا هدم لجهد مبذول بغير جهد، وكلام في العلم بلا علم، وإننا أحوج ما نكون إلى الإنصاف والبعد عن التعسف والاستخفاف، ولكن الإنصاف عزيز.

والحمد لله على ما وهب، ثم الصلاة ما حكت حمائم حمائما إذا بكت، على أجلِّ مرسل وآله وصحبه وتابعي من واله.

 

العدد التاسع شعر ، أدب ، اللغة العربية ،