العدد التاسع تأملات إعلامية

الوظيفة الاصلاحية للعمل الإعلامي / تأملات إعلامية

2/18/2021

د. طه احمد الزيدي

قال تعالى: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) (سورة النمل).

تتحدث هذه الآيات عن السبق الإعلامي في نقل واقعة بعيدة، مع إعطاء هدف إصلاحي للعملية الإعلامية، فلا تقتصر على التعبير وإنما تتعداه إلى الحرص على التغيير الإيجابي، وقد نقلت لنا تراجم الإعلاميين بعض الصور المؤثرة أبطالها إعلاميون جمعوا في عملهم نقل الحقيقة والتعبير الصادق عن مشاعر الناس وأحاسيسهم وتغيير الواقع إلى حالة أكثر إيجابية للمتلقين، كالإعلامي الحربي الذي نقل وثيقة الصلح ليسهم في إنهاء حرب دموية.

إنَّ الآيات تعرض لنا هذا النموذج من الإعلام الإيجابي، بطله أحد العاملين بمهمة نقل الأخبار في مملكة نبي الله سليمان عليه السلام، إنه طائر الهدهد، الذي جمع بين وظيفته الإعلامية في نقل النبأ اليقين والوقائع البعيدة، ووظيفته الإصلاحية في إنقاذ مملكة من الشرك ودخولها التوحيد.

إنَّ مما يؤسف له أن الإعلام المعاصر لم يبتعد عن وظيفته الإصلاحية فحسب، وإنما أصبح باباً واسعاً من أبواب نشر الفساد والرذيلة، والأفكار الهدامة، والتلاعب في نقل الأنباء والأخبار والتشويش على من ينقلها بيقين وتثبت.

إنّ قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام مثّلت عملية اتصال متكاملة، فالمرسل هو الهدهد الذي أدى واجبه الإعلامي بإتقان وحرفية ومسؤولية، والمستقبل هو نبي الله سليمان، عليه السلام، الذي تلقى النبأ اليقين من الهدهد، وكان مصدره حواسه فقد نقل ما سمع ورأى، والرسالة هي نقل خبر قوم سبأ ومفادها أن امرأة تملكهم ولها عرش عظيم وهم يعبدون الشمس من دون الله الذي خلقهم ورزقهم وهو مستحق العبودية، والوسيلة هو الخطاب الشخصي الوجاهي بين الهدهد ونبي الله سليمان، عليه السلام، والاستجابة المشروطة هو تفاعل نبي الله سليمان مع المعلومات واتخاذ خطوات عملية للتحقق منها ومن ثم معالجة الموقف من محتواها.

ومن الفوائد الإعلامية من هذه القصة:

-أن القائم بالإعلام (وهو الهدهد) يتمتع بمهارات إعلامية متقدمة، ولديه القدرة على الفرز النوعي للأخبار وإلمام بمعايير النشر الإخباري، وقد نجح بهذه المهارات في جمع ونقل مجموعة من البيانات والمعلومات المهمة والدقيقة والجديدة التي لم يسبق لنبي الله سليمان عليه السلام الاحاطة بها، ولها أهمية عنده.

-استخدم الهدهد المقدمة المشوقة لجذب انتباه نبي الله سليمان عليه السلام وإثارة اهتمامه، فقد بدأ باستثارته بأنه أحاط علما بما لم يحط به من قبل.

-الثقة العالية في تقديم موجز الأخبار ،واستخدام ألفاظ تدل على دقة التحري، وعمق البحث، وحسن التأمل، مثل "جئتك": تدل على إحضار معلومات من مكان آخر خارج مملكته، وفيها سبق صحفي لأنها تذاع لأول مرة على مسامع نبي الله سليمان عليه السلام؛ ولأنه تحرى جمع الأخبار بنفسه واستقصاها من مكان الحدث فقال: "احطت": وهي تدل على إحاطة شاملة للحدث أو الخبر، ولأهميتها بالنسبة لنبي الله فوصفها بنبأ يقين، والنبأ في المفهوم القرآني أصدق من الخبر وأقوى مضمونا وأكثر أهمية، ولم يقتصر الهدهد على نقل المعلومات وإنما تفسيرها والتعليق عليها، فقدم قصة إخبارية على محورين: التوصيف والتحليل الارتباطي: فالتوصيف متعلق بمعلومات تدرك بالحواس، كوجود امرأة ملكة على قومها، وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، واما التحليل الارتباطي: يسجدون للشمس من دون الله، ومعلوم أن السجود من أعظم العبادات العملية التي ترتبط بها المفاصلة في العبادة لأنه أصلها، وأن الشيطان صدهم عن السبيل وصرفهم عن الهداية، ولعل أكثر ثلاثة أشياء جذبت انتباه نبي الله سليمان: الخضوع في الحكم لامرأة، ورأى فيه علوا عليه، وعبادة غير الله، وعظمة عرشها، وهي أمور متعلقة بطبيعة شخصيته عليه السلام كونه رسولا ملكا.

ومن الفوائد الإعلامية لهذه القصة الإخبارية:

-عناية الإعلاميين بمقدمات أعمالهم واعتماد أسلوب التشويق عند كتابة القصة الإخبارية.

-تحري الدقة في جمع المعلومات المتعلقة بالقصة الإخبارية وأخذها من مصادرها، والصحافة الاستقصائية تعد تطورا في نجاح هذه المهمة وما تتطلبه من الحضور الفاعل والمستمر في موقع الحدث وتقمص إحدى شخصياته ليكون التقرير الإخباري واقعيا دقيقا.

-تعزيز وظيفة التعبير بالنقد الايجابي لما يتم تغطيته من مظاهر في المجتمع فالبعد الاصلاحي في العمل الإعلامي له أثره في رسالة الإعلامي.

-على الإعلامي أن يتحلى بالشجاعة في اعلان ما توصل اليه أو اقتنع به وينقله للجهات المعنية بمهنية، كما فعل الهدهد.

- التأكيد على مبدأ التثبت في نقل الأخبار ولاسيما التي ستكون لها آثار سياسية أو عسكرية تغطي مساحة بعيدةً عن مركز القرار، فمن قواعد التعامل مع الأخبار ولاسيما المهمة والخطيرة، أن يتم التأكد من صحتها قبل إذاعتها، عن طريق إعادة الاتصال بمصدر الخبر للتأكد من صحة ما نقل عنه، أو سلوك أي طريق آخر يؤدي الغرض نفسه، (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)، ولو أدى هذا التثبت إلى تأخير نشر الخبر فإن في ذلك أمانا من خطر كبير يهدد الوسيلة الإعلامية، هو خطر التكذيب الذي يفقد الوسيلة أو المصدر ثقة المتلقين بها وفي فقدان هذه الثقة ضياع لها، ولذا ينبغي التوقف عند سماع الأخبار، وأن نتحرى الدقة في نقلها، وينبغي غربلة الأخبار ونقدها للتأكد من صحتها، وهذه مهمة رئاسة التحرير في التدقيق فيما يصلهم من أخبار ومعلومات ومرويات عن طريق الصحفيين الذين يعملون معهم فضلا عن المصادر الأخرى، لاحتمالية المبالغة وعدم الدقة والتصور المغلوط والفهم الخاطئ ولاسيما التي تترتب عليها آثار واجراءات.

العدد التاسع الاعلام ، القصة ، نقل الأخبار

---