مدونة الدكتور محمد محمود كالو


الحج مؤتمر السلم العالمي (3)

الأستاذ الدكتور محمد محمود كالو | Prof. Dr. Mohamed KALOU


12/07/2024 القراءات: 10  


ثانياً: البُعْدُ المكاني:
وترتبط فريضة الحج كذلك بمكان خاص يتصف بالحرمة والقداسة، وهو الحرم المكي الذي جعلته السماء منطقة آمنة منزوعة السلاح، ومعزولة عن الحروب، قال الله تعالى:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125]، فهو قطعة أمن وأمان، لا أنه مكان يتصف بالأمن والأمان فحسب، وهذا من أبلغ التعبير وأدقه، قال سبحانه وتعالى:
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]
وقد انعكست عليه صفة الأمن نتيجة لعلاقته بالتوحيد، وكونه عاصمته ومركزه في الأرض.
وإذا كان البعد الزماني محدداً من جهة الزمان، ومطلقاً من جهة المكان، فإن البعد المكاني بعكسه محدد من جهة المكان، ومطلق من جهة الزمان؛ فحرمة الحرم المكي خاصة بأرض معينة، ولكنها ليست خاصة بزمان معين.
ويلتقي البعدان عند حلول الأشهر الحرم في الحرم المكي لتتأكد حرمة القتال، وتتعزز الحاجة إلى السلم، وتأتي فريضة الحج لتزيدهما حرمة وتأكيداً للسلم، وليبلغ الشعور السلمي في المجتمع المسلم ذروته وأوجه.
ويفترق البعدان بعد ذلك في الباقي من أشهر السنة، حيث يجوز القتال في كل أرض، وفي الباقي من الكرة الأرضية حيث يجوز القتال في كل وقت.
وللعلة نفسها والتي ذكرت في البعد الزماني؛ نجد أن الإسلام لم يجعل حرمة القتال في الحرم المكي بصورة مطلقة، فاستثنى القتال الدفاعي، وهذا الاستثناء يجسد الكمال في نظرية السلم والأمن في الإسلام، لأن التحريم المطلق للقتال في الحرم المكي، يعني فسح المجال لظهور فرص واسعة من العدوان والظلم.
وهذا ما يتنافى مع مبدأ الحرم المكي، قال الله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191].
وهذا يعني أن مبدأ الحرم المكي يمثل دعوة إسلامية لقيام نظام عالمي، تتبادل فيه الأطراف الدولية الاحترام لمبدأ الحرم المكي من جهة، ولقيام مجتمع إسلامي يقوم بدور القدوة الحسنة في هذا المجال من جهة ثانية.
وقد كان لهذه الدعوة أثرها البالغ في الحياة الاجتماعية للمسلمين، إذ كان المرء يرى قاتل أبيه، أو أخيه في الحرم المكي فلا يتعرض له بأذى، مع شدة التزام العرب تقاليد الثأر.
وهذا ما يمكن عده دليلاً على إمكان أن يلعب مبداً الحرم المكي دوراً مماثلاً على صعيد الأمن والسلم في العالم.
ولتأكيد الأهمية الأمنية لمكة المكرمة، عد القرآن الكريم كل لون من ألوان الظلم في مكة إلحاداً، وعد أيضاً الهم بذلك الظلم بمثابة القيام به من حيث استحقاق العقوبة عليه، بينما لم يأخذ بهذه الدرجة من الشدة في البقاع الأخرى من العالم، وذلك ما يحمل دلائل واضحة على ضرورة عدم الاكتفاء بمرحلة سلم الجوارح، بل لابد من أن يكون المسلم في مركز التوحيد، وقد وصلت عنده المشاعر السلمية والأمنية درجة من النضج بحيث تستولي على قلبه أيضاً، وتمنعه من أن يخطر على باله الهم بالظلم والرغبة فيه.
فإذا كان المسلم في باقي الأرض هو من سلم الناس من يده ولسانه، فإن المسلم حينما يكون في مكة المكرمة يطلب منه أن يسلم الناس من يده ولسانه وقلبه، وأن يبلغ مرحلة سلم الجوارح والجوانح؛ لأن النزوع نحو السلم يجب أن يتناسب مع درجة التوحيد التي يصل إليها المؤمن؛ ولما كان المطلوب من المسلم أن يكون في مكة قد وصل إلى ذروة ما يمكنه الوصول إليه من التوحيد، فلابد من أن يكون نزوعه السلمي قد بلغ أوجه أيضاً. وهذه هي المعادلة التي جعلت الحرم المكي يمتاز على باقي بقاع الأرض بهذه الأبعاد السلمية المركزة قال الله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ومعنى (يُرِدْ) مجرد هَمِّ الخطرات وحديث النفس، فتكون لمكة خصوصية وهي أن الله تعالى يؤاخذ بالهَمِّ في حرَم مكة فقط، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما من بلد يؤخذ فيه العبد بالهمة قبل العمل إلا مكة وتلا الآية.
إن عناية الإسلام بمنطقة معينة من العالم، وتحريمها عسكرياً، وعزلها عن السلاح، ثم ربط الحج كفريضة ذات مضمون سلمي بها، حيث يفد عليها سنوياً جموع هائلة من الحجيج، ومن ورائهم قلوب المسلمين كافة تتطلع إلى هذه المنطقة روحياً وترتبط بها معنوياً في أيام الحج، إنها لتعكس مستوى الرقي في هذا الدين، ومدى اهتمامه بالسلم عملياً.
فإذا كانت الأرض كلها مفتوحة أمام الحروب والنزاعات التي تمزق المجتمع الإنساني، فلماذا لا تعزل من الكرة الأرضية منطقة تعد منزوعة السلاح يحرم فيها القتال والعدوان؟ وإذا كانت أيام السنة كلها يمكن القتال فيها، فلماذا لا نعزل منها أربعة أشهر حُرُم تكون فرصة أمام الطرفين للتثبت من براءتهم فيما يتخذونه من مواقف قتالية؟

وإذا كان الغرب قد اتخذ من مدينة جنيف السويسرية مركزاً لعقد المؤتمرات الخاصة بالسلم والأمن، وفض النزاعات الدولية، واتخاذ القرارات والمواقف اللازمة لدعم الأمن العالمي، فإن الإسلام قد سبق الغرب في هذا المجال، بل إن خليل الرحمن إبراهيم الذي رفع القواعد من البيت، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يجعل مكة بلداً آمناً قبل آلاف السنين؛ يعد المؤسس الأول لهذه الفكرة، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
على أن اختيار الإسلام لمكة أرجح بكثير من اختيار الغرب لمدينة جنيف، فإن القانون وحده لم يكن يوماً كافياً لحل مشكلة من المشاكل الإنسانية،


الحج، مؤتمر السلم، السلم العالمي، السلام، البعد المكاني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع