مدونة الباحث/محمد محمد محمود إبراهيم


✍️{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)

باحث /محمد محمد محمود إبراهيم | MOHAMED MOHAMED MAHMOUD IBRAHIM


29/12/2022 القراءات: 344  


ونستطيع -من خلال إمعان النظر في الآية، واستصحاب بيان الصحابة والتابعين لمعناها، وتصويبهم للانحراف في فهمها- أن نستخلص منها بعض حقائقها ومفاهيمها.
1 - إنها تأمر المسلمين بالإنفاق في سبيل الله، ونفهم من الإنفاق شموله لكل صوره ونماذجه وأفراده، فهو يشمل إنفاق المال في سبيل الله، وفي الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، وتجهيز الغزاة والمجاهدين، وإعداد العدَّة، وحشد الإمكانيات.
كما أنه يشمل إنفاق النفس في سبيل الله، بأن يوقِفَ نفسه على الدعوة الى الله، والجهاد في سبيله، ونصرة دينه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بالحق والصدع بالأمر بجرأة وشجاعة وثبات. ولا يبخل عن أن يبذل نفسه في سبيل ربِّه ونصرة لدينه، ولو أوصله إلى الموت والاستشهاد في سبيل الله:
تَهونُ عَلَيْنا في المَعالي نُفوسُنا ... وَمَنْ يَطْلبِ الحَسْناءَ لَمْ يُغْلِهِ المَهْرُ
إنه يطلب الجنة، ويخطب الحور العين فيها، وإن هذا المهر يتمثل في إنفاق النفس والمال في سبيل الله، فيبذلهما راضياً، ويدفع المهر للحصول على المراد.
والإنفاق يشمل إنفاق الأوقات كلها في سبيل الله، فيوظِّف عمره بسنواته وشهوره وأيامه وساعاته ولحظاته، لنصرة دينه والدعوة إليه، فلا يبخل بوقته، ولا يَضِنَّ بساعاته.
كذلك ينفق الأفكار والمشاعر في سبيل الله، فيوظِّف فكره وخياله وشعوره وأحاسيسه وخطراته وتأملاته، في فتح مجالاتٍ جديدةٍ للدعوة، وتقديم الحق للناس.
وينفق أهدافه وآماله ومخطَّطاته ومشاريعه في سبيل الله، فيجعلها " وقفاً " على دعوته، يعيش بها ولها، ويتحرك من خلالها.
2 - وجوب توفر الإخلاص والنية الصادقة وابتغاء وجه الله، في كل ما ينفقه من مال أو جهد أو وقت أو فكر أو نفس، حتى ينال القبول عند الله، وحتى يحقق الأثر المرجو في واقع الحياة.
3 - إن قيام هذا المسلم بواجبه، وإنفاقه كل ما يقدر عليه في سبيل الله، وثباته على الحق واستعلاءه بالإيمان، وجهره بالرأي، وقيامه بالدعوة، بجرأة وشجاعة وإقدام، وصدق والتزام، وتقبله كل ما ينتج عن ذلك من الآخرين، واحتسابه كل هذا عند ربِّه الكريم، وبقاءه على هذه الخطة والطريقة حتى يلقى الله. إن هذا كله واجب عيني عليه، لا يسقط عنه. ولا يمكن أن يسمى هذا تطرفاً أو تعصباً أو تهوراً أو تعنتاً. ولا يعتبر هذا تهلكة، أو إلقاء بنفسه إلى التهلكة.
4 - إن التهلكة التي تنهانا الآية عن أن نلقي أنفسنا فيها وإليها، وكما فهمها الصحابة والتابعون والعلماء العاملون، هي ضدّ ما ذكر سابقاً وعكسه ونقيضه، إنها تتمثل في ضَنِّه بنفسه أو ماله عن الإنفاق في سبيل الله، وقعوده عن القيام بالواجب، وجبنه عن قول كلمة الحق، ورضاه بالذل والهوان، وإيثاره السلامة الذليلة والحياة الرخيصة، ورفضه دفع واجب الدعوة، وتكاليف العمل، وضريبة الحياة ولوازم الرجولة.
5 - إن المسلم مطالب بالإحسان في أداء ما طلبه الله منه، ودفع ما أوجبه عليه، الإحسان في الإنفاق، والإحسان في الجهاد، والإحسان في الدعوة، والإحسان في العمل، والإحسان في الالتزام والاستقامة والثبات والجرأة والشجاعة والإقدام.
الإحسان الذي يجعله يبتغي بهذا كله وجه الله، والإحسان الذي يدفعه إلى تقديم أفضل وأطيب وأزكى وأنفع ما لديه منه، والإحسان الذي يحثّه على أن يدفع ويبذل ويقدِّم باستمرار، بدون مللٍ أو كللٍ أو ضنّ أو يأسٍ أو زهدٍ أو استكثار، حتى يلقى الله.
ومن أجل أن يرسخ هذا المعنى عند المسلمين، ويزول ما قد يعلق في أذهان بعضهم من المعنى الآخر غير المراد، نقدِّم بعض الآيات والأحاديث،
التي تبيَّن وجوب القيام بالواجب، والدعوة والجهاد تحت كل الظروف، وفي كل الأحوال:قال الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}.
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
وقال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وروى أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ".
وروى أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق ".
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مِن خير معاش الناس لهم: رجلٌ ممسكٌ بعِنان فرسه في سبيل الله، يطير على متْنه (يعني على ظهره) كلما سمع هَيْعَة -يعني الصوت بالغارة- أو فَزْعَة، طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانّه ".ا.هـ


✍️{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع