مدونة د. جميل مثنى الحبري


ونجمٌ آخر يأفلُ ولا يـغيبُ: أ. د عبد العزيز المقالح (1)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


06/12/2022 القراءات: 960  




لمّا نكَدْ نُفِقْ من صدمة رحيل عَلَمين من أعلام العربيّة وشموس المعرفة- ممّن أفنوا أعمارهم في فضائها وأكناف حدائقها؛ يستظلّون تحت فيئ واحات آدابها، ويستنشقون أريج رياحين معارفها، ويتضمّخون بطيب عَبق علومها، ويستنشقون شذو عبير تراثها- حتّى فُجعنا بثالث ثلاثتهم؛ ممّن غيّب الموتُ أجسادهم- طيّب الله ثراها- ولم يخمُدْ ذِكرُهم: علّامة المشرق العربيّ (مصر الكنانة) (أ. د. جابر عصفور) أستاذ النقد والبلاغة في جامعة القاهرة، الذي وافته المنيّة في مثل هذه الأيام من العام المنصرم (ديسمبر 2021م)، وعلّامة المغرب العربيّ (أرض المُرابطين والموحّدين) (أ. د. محمّد مفتاح) أستاذ الأدب والبلاغة والنقد بجامعة محمد الخامس بالرباط، المتوفّى في (مارس 2022م )، وها هو الآن يُغيّب ثالثهم، روح أستاذنا علّامة الجنوب العربيّ (اليمن السعيد) وأديبها ومثقّفها ومفكّرها (أ. د. عبد العزيز المقالح) أستاذ الأدب الحديث ونقده في جامعة صنعاء في (28/11/2022م). وكما أنّ هؤلاء الثلاثة هم أبناءُ جيلٍ واحدٍ برزوا في فترة السبعينيّات من (ق 20م)، ممّن تحصّلوا الدكتوراه إبّانها، فها هُم يأفلون معًا بتغييب أجسادهم، لكنّهم حاضرون بعلمهم ومآثرهم وذيوع صِيتهم؛ بما خلّفوه من علومٍ ومصنّفاتٍ خالدة إلى ما شاء الله؛ وكأنّ أرواحهم متلازمةٌ تأبى أن تُفارق كلُّ واحدةٍ منها الأخرى؛ مصداقًا لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المروي عن ابن مسعود وأمّ المؤمنين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم: "الأرواحُ جُنودٌ مجنّدة، فما تعارفَ منها ائتلف، وما تناكرَ منها اختلف". وهو ثالثُ الشعراء الأعلام الثوريّين السبتمبريّين (26/9/1962م): هو، ومحمّد محمود الزبيري، وعبد الله البردّوني. فما تُذكر اليمنُ ومبدعُوها إلّا ويتبادر إلى ذهنك هؤلاء الأعلام.
كأني بهم- يسألون-
وقد رحلوا من مئات السنين:
لماذا تجاهلت الكلماتُ مدينتَنا؟
ورأيتَ (حزيمةَ)()..
أمواتَها، ومنازلَها
غيرَ لائقةٍ بدخول القصيدة؟
أوجعَني
انعززتْ كلماتُ السؤالِ
بقلبي،
شظاياه أدمت حروفَ الكلامِ،
وبدّدَتِ الحلمَ المتدفّقَ
يا أيُّها الهانئون بعطلةِ أجسادهم،
لا تلوموا غبارَ القصيدةِ
إنّ مدينتَكم هي أوّل ما يقرأُ الشعرُ،
آخرُ ما يكتبُ الشعرُ،
تغسلُ بالدمعِ وجهَ مدينتِنا
ويدَيها،
وتصافحُ- بالحزن- أكفانَها
والنُّعوشْ
***
(هذه بيوتُ الموتى
لا تضيءُ إلّا في اللّيلِ
في النّهار يغشاها الأسى ويدثِّرُها الكمدُ..
تحتَ هذه الأضرحة يرقدُ اللّحمُ والعظمُ،
أمّا الأرواحُ فقد نبتتْ لها أجنحةٌ
وطارتْ إلى الأعالي
المقبرةُ صغيرةٌ لكنّها لا تتّسعُ لكلِّ الموتى
المساواةُ- هُنا- في ذروةِ رحمتِها
بينَ مَن عاشَ دهرًا طويلًا
ومَن عاشَ أيّامًا معدوداتٍ
هل تختلفُ الأصابعُ في القبضةِ الواحدة؟
مسكينٌ.. الإنسانُ،
رحلتُه تقومُ على إيقاعِ ثلاثِ كلماتٍ:
بكى،
تعِبَ،
ماتْ)()
كان يجلّ الزبيريّ إجلالًا عظيمًا، كتب عنه كثيرًا، وأفرد له كتابًا (الزبيري ضمير اليمن الثقافي والوطني)()، ودافع عنه ضدّ ما نُسب إليه من تُهم، كالتعصّب، والعرقيّة والطائفيّة والإقليميّة، وأنّه كان ضدّ النظام الجمهوري؛ وأنه كان مُحبًّا للحرب ضدّ السلام، مُبديًا اندهاشه واستغرابه البالغَين حدّ الاستنكار والتهكّم والازدراء من هكذا تُهم؛ متسائلًا بتعّجب!! "كيف؟ ومتى؟! الحقيقة في بطون الحواة، وعلى ألسنة أولاد الأفاعي"، مبيّنًا أن الزبيري قد أراد "أن يُخلّص اليمنَ من الموت دون أن يفرّط في حقٍّ من حقوق الشعب، ودون أن يساوم على صغيرة أو كبيرة في ثورته. لقد أراد السلام لليمن في ظلّ النظام الذي اختاره الله والشعب، واختارته- كما يقول دماء الشهداء- لكنّ الزبيري مات وكلماتُ السلام على شفتيه، ودمُه يكتب اللّعنةَ الأخيرة لإله الحرب"(). أما البردّوني، فقد أجلّه حيًّا وميّتًا؛ مُصرّحًا في إحدى كتاباته عنه بعد وفاته، بأنّه كان دائمًا ما يغبطَه شعرَه- والغبطة جائزة، بخلاف الحسد()- كما في ملفوظ خطابه عنه: "لقد سبقَني في العمر، وسبقَني في الشعر، وها هو يسبقُني إلى الموت". وعندما طَلب منه البردّونيّ أن يُقدّم لأحد دواوينه بعد عودته من القاهرة عام 1979م، تساءل أستاذُنا في تواضعٍ ووقار، وبأسلوبٍ يكسوه الاندهاش والانبهار من جهة، ويدفع عنه ما أُشيع لدى مرضى النّفوس عن غيرته من البردّوني، وعن صراعٍ يدور في الكواليس فيما بينهما من جهةٍ أخرى: "هل تستطيع الساقيةُ أن تقدّم النهرَ؟ وهل يستطيع النهرُ أن يقدّم البحرَ؟ ذلك ما يريده منّي صديقي الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله البردّوني. وهي إرادةٌ عزيزةٌ على نفسي، حبيبةٌ إلى قلبي، ولكنّها كبيرةٌ على قلمي، ثقيلةٌ على ذهني (...). أيّها الصديق العزيز، لقد قرأتُ شعرك وأنا تلميذٌ في الابتدائيّة، وقرأته وأنا طالبٌ في الإعداديّة، وقرأته وأنا مدرّسٌ في الثانويّة، وصار بيني وبينه ألفةُ العمر..."(). ويرى أنّه "من الشعراء القليلين في اليمن، بل في الوطن العربي الذين لا يزالون يحافظون على شرارة الشعر والفنّ في القصيدة العموديّة [البيتيّة]، وهو من القرّاء المُدمنين على الشعر الجديد، يُفيد من صوره الجديدة، ومن تحرّره في استخدام المفردات والتراكيب الشعريّة الحديثة، وقد اكتسب شعره على محافظته أهميّةً كبيرة في السنوات الأخيرة، لمضامينه الجماهيريّة الواضحة"().
ظلّ أستاذُنا وفيًّا لأساتذته وأصدقائه ومُحبّيه طيلةَ حياته؛ كتب عنهم وأشاد بهم وأنصفهم، ولم ينسَ فضلهم ومودتّهم والإشارة إليهم سواء أكانوا أحياء أم قد طواهم الموت ودثّرهم بدثاره. إذ أنّه كان يرى أن تجاهلهم، بل مجرّد نسيانهم أو عدم ذِكرهم يُعدّ غمطًا لهم، وجُحودًا بحقّهم، ونكرانًا لمآثرهم، وهذه إحدى سجاياه التي لمسنَاها لديه.


عبد العزيز المقالح، وفاة تأبين.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع