مدونة د. جميل مثنى الحبري


ما أرخص الإنسان في بلاد اليمن (٢)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


18/03/2022 القراءات: 1205  


إنّه ليسَ شعورًا من قِبل هذه (الذات) بالغربة والاغتراب عن الوطن، وبالتالي الفرار منه واللوذ بالعالم الآخر، العالم البديل، عالم الأحلام واليوتوبيا (Utopia)، وليس خضوعًا لـذلك (الليل)- الرامز للاستبداد والتسلط، المتجسّد في صورة كائن هلامي مُستبِدٍ بها، مُطبِقٍ ومحكِمِ الخناق عليها- وليست سلبيةً، غيرَ فاعلةٍ؛ في كونها لا تبدي أدنى مقاومة أو مواجهة، بل هو تحدٍّ له، ومقارعته، بل ورفض الموت القسري ذاته، كما يتجلى في قصيدته (أنسى أن أموت) (1971م) التي مطلعها: (تَمتَصُّنِي أَموَاجُ هَذَا اللَّيلِ فِي شَرَهٍ صَمُوتْ) (وَتُعِيدُ مَا بَدَأَتْ، وَتَنوِي أَنْ تَفُوتَ وَلَا تَفُوتْ) (فَتُثِيرَ أَوجَاعِي وَتُرغِمَنِي عَلَى وَجَعِ السُّكُوتْ) (وَتَقُولُ لِي: مُتْ أيُّهَا الذَّاوِي، فَأَنسَى أَن أَمُوتْ). فالصمت والسكون، فضلًا عن كونهما رمزين لـ(الجبناء)، وعلامة سيميائية دالة عليهما، فهما صفتان ملازمتان لـ(الموتى). ويتجلّى هذا التحديّ في ما يختلج (الذات) من غلٍّ وإصرارٍ وتحدٍ، ويعتصرُ ويثورُ في كوامنها إزاء أولئك المستبدين بالفقراء والمستضعفين، وبالأيتام والأرامل، وكذلك إحساسه بأنين المدينة وأشجان بيوتها. لذا فهي لا تبالي بهم، ولا ما ينجمُ عنهم، فهو مستعدٌ لمجابهتهم وحده، والتصدي لهم بما يجيش في خلجاته من صدق المشاعر، وقوة الكلمة، وحرارة الإحساس: (لَكِنَّ فِي صَدرِي دُجَى الموتَى وَأَحزَان البُيُوتْ) (وَنَشِيج أَيتَامٍ، بِلَا مَأوَى، بِلَا مَاءٍ وَقُوتْ) (وَكَآبَة الغَيمِ الشِّتَائِي وَاِرتِجَاف العَنكَبُوتْ) (وَأَسَىً بِلَا اِسمٍ، وَاختِنَاقَات بِلَا اِسمٍ أَو نُعُوتْ) (وَحدِي أَلُوكُ صَدَى الرِّيَاحِ وَأَرتَدِي عُرْيَ الخُبُوتْ). ولذلك يعيبُ شاعرنا البردونيّ على (المواطن) الذي تستبدُّ به السلبيّةُ وتستحوذُ عليه، مستكينًا منصاعًا لها في خضوعٍ تامٍ وذلٍ مخزٍ؛ مخاطباً إياه، ومجسِّدًا البلادَ فيهِ حتى غدت معادلًا موضوعيًّا رمزيًّا، تتجسّدُ فيه، ويتجسَّدُ هو فيها: (قلْ لها... قبل أنْ تعُضُّ يديها *** هل غرامُ الذِّئابِ يحلو لَدَيهَا؟) (وهيَ ليستْ بشاةٍ... ولكِن لماذا *** تتوالى هذيّ الهدايَا إلَيها؟) (مُقلَتاها أَظمَا مِن الرَّملِ... مَاذَا *** يَرشفُ المُرتوون من مُقلَتيها؟).
ولعلّ في خطاب البردوني في (غريبان وكانا هما البلد) (1974م) عن (المواطن اليماني المهاجر) الذي دفعته الأوضاعُ والظروفُ السيئة إلى الهجرة والاغتراب، وما يشعر به في مهجره إزاء ذلك، ما يُفصح ويُبين عمّا ينتابه من غبطةٍ وفرحٍ وابتهاجٍ عند لقائه بأخٍ له مهاجرٍ مغتربٍ مثله، وكيف أن البهجة لا تسعه، والبسمة التي فارقت محيّاه- منذ فترة طويلة- تُبعث من جديد، والأرض التي ضاقت بما رحُبت عليه، تنفتح وتنبسط له، ممتدة بين ذراعيه. ويلحُّ خطاب البردونيّ في تصوير كيفية تجسّد (الوطن) وكلّ بقعةٍ فيه في عيني ذلكما المواطنين المغتربين؛ وكيف أن كلًا منهما يرى الوطن متجسِّدا في الآخر. فذلك (حاشِدٌ، وبَكِيلٌ، وَعَدَن)، وهذا (تِلَالُ بَنَا، وَعَيبَانَ، وَشَمسَانَ، وَبَينُونَ)، وكل منهما وسواهما من المهاجرين بمثابة (صَخرٍ مِن السَّدِ يَجتَازُ المحِيطَ إِلَى *** ثَانٍ يُنَادِي صَدَاهُ: مَن رَأَى عُمُدِي؟)؛ أي في كون كل (حَجَرة)- بوصفها معادلًا رمزيًا لـ(المواطن المهاجر المتشرد)- من حجارة سد مأرب المتهدِّمة قد أصبحت شريدة، يسأل بعضها عن بعض. ويكشف هذا الخطاب أيضًا عن مأساة (المواطن اليمني المهاجر) في الغربة الدائمة، بل وانتقاله وارتحاله المتكررين من بلد إلى آخر، واضطراره بالتالي إلى السفر بأسماء مستعارة وبجوازات مختلفة، تكلّف تغيير الاسم لملاءمة الجواز حتى يصبح له في كل بلد اسم آخر، فضلًا عن أن الحيَّ قد يحمل جواز الميت، ويستعير المسافر جواز العائد، بتغيير اسمه حتى لا يتكلف ثمن جواز آخر (وكان يتم هذا قبل إعمال فكرة صورة المسافر على جوازه). فهذا اسمه (سَعِيدٌ) فِي تَبُوك، وَفِي سَيلَانَ (يَحيَى)، وَفِي غَانَا (أَبُو سَنَدِ)، وذلك في نَيجِيرِيَا (حَسَنٌ)، وَفِي الملَاوِي يُدعَى (نَاصِرَ العَنَدِي). لكنّ هذه (الغربة) قد طالت، ومضى عليها دهورٌ، حتى أن فصول (مَأسَاتِنَا الطُّولَى)- في (الداخل)، نتيجة الفقر والمرض والجهل والأمية و... وفي (الخارج) بسبب التشرذم والغربة والاغتراب- قد غدت بِلَا عَدَدِ. وعلى الرغم من اغترابه ونوصه (تحوله) وارتحاله عن بلده منذ ست سنوات، فإنها لا تفارق مخيلته، ولا تبارح صحوه ونومه، أحلامه ويقظته. إذ يخشى أن قد حدث فيها من المصائب والمكاره ما كان يتوقعه ويدور في ذهنه جراء تلك الآثار المروّعة التي كانت تمر به البلاد آنذاك (تفشي الفقر والمرض والجهل والحروب والمجاعة والأوبئة وسوى ذلك). لكنّ ما يؤرقه ويقضّ مضجعه ويهدّ أركانه فوق ذلك- على عِظَم هذه المصائب والنوائب- ما يلاقيه من المرتزِقة العملاء الدخلاء على الوطن، أذناب الآخر، وعبّاد المصالح، المتسلقين على أكتاف الآخرين، تجار الحروب، ناهبي الثروات، وماصّة دماء الشعوب وآكلي أقواتهم، باعة الأوطان والمتاجرين بها، ومُثيري الفتنة والاقتتال والتشرذم والتناحر (هنا وهناك)...
وَفَوقَ ذَلِكَ أَلقَى أَلَفَ مُرتَزِقٍ *** فِي اليَومِ يَسأَلُنِي.. مَا لَونُ مُعتَقَدِي؟
بِلَا اعتِقَادٍ.. وَهوَ مِثلِي بِلَا هَدَفٍ *** يَا عَمُّ مَا أَرخَصَ الإِنسَانَ فِي بَلَدِي
والآنَ يَا ابنِي؟ جَوَابٌ لَا حُدُودَ لَهُ *** اليَومَ أُدجِي لِكَي يَخضَرَّ وَجهُ غَدِي


المعاناة، رخص قيمة الإنسان اليمني


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


عفواً لتأخر نشر المقال، نتيجة خلل فني في مدونتي. أشكر القائمين على الموقع، لتكرهم بإصلاح الخلل، واستجابتهم لذلك.


تصحيح: لتكرمهم