مدونة د. جميل مثنى الحبري


وعند الله يومئذ يجتمع الخصوم

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


24/02/2022 القراءات: 1316  




ما أشدَّ جهلَ الإنسان وحمقَه! وما أعظمَ رزيَّتَه وبلواه في نفسه! بل ما أفظعَ اجتراءَه عليها، واجتراءَها عليه! فكيف لهذه النَّفسِ الهاجعة بين جنبي صاحبها أن تلوكَ به يمنةً ويسرة، وتتلاعبُ به بين ذراعيها، كقاربٍ تتقاذفُ به الأمواج، غير آبهةٍ ومكترثة بما سيغدو إليه مصيرُه ومصيرُها، وما سينتهي إليه مآلُه ومآلُها. في لحظةٍ تغترُّ هذه النفس ظانّةً أنها ملكت الدنيا وما فيها، وحين تحينُ ساعتُها تُدرك أنها ما لبثت فيها غيرَ ساعة. إنه صراعٌ بين نفسين: نفسٌ لوامَّة زكيَّة خيِّرة، ونفسٌ أمَّارةٌ بالسوء خبيثةٌ شِريِّرة؛ صراعٌ بين طريقين متنافرين: الخير والشر؛ بين صراطين متعارضين: الحقّ والباطل. هاتان النَّفسان هما فلسفةُ هذه الحياة، القائمة على تلكما الجدليَّتين: الخير والشر؛ الحق والباطل. وهما بما يتضمناه من فلسفة هاتين الجدليَّتين، يُمثلَّان السبب والنتيجة؛ سبب خلق الإنسان والحكمة من خلقه، والنتيجة التي سيتم وفق سيروره تلكما النَّفسين إجراء الأحكام وتقييمها. تلك ديباجةٌ كان لا بُدَّ منها للولوج إلى الثيمة أو الفكرة المراد بثّها هاهنا ومناقشتها، ألا وهي فكرة (الحقوق) بصفة عامة؛ حقوق الناس فيما بينهم التي كفلها لهم الشرعُ الحكيم، ونظَّمتها القوانين والثقافة والأعراف؛ في حفظ النفس والمال والعرض والحريات والعهود والمواثيق وسوى ذلك. ففي الحديث المروي في صحيحي مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة، قوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ". ويشمل هذا الحقُّ، حقوقَ كلٍّ من: القريب على قريبه، والجار على جاره، والحاكم على المحكوم، والمحكوم على الحاكم، والزوج على زوجته، والزوجة على زوجها، والوالدان على أبنائهما، والأبناء على والديهم، ونحو ذلك.
وموضوعُ الحقوقِ موضوعٌ متشعبٌ وواسع؛ في الديِّات، والوِرث، والزواج والطلاق، والبيوع والشِّركة، والمعاملات، والقرض، والدَّين، والشهادة، وما إلى ذلك. لكنّنا سنقصرُ النظرة هاهنا على مسألةٍ بعينها؛ مسألة الظلم أو الحَيف الواقع بين الناس، وما ينشأ فيما بينهم من خصوماتٍ ونزاعاتٍ في قضايا عدة، كتلك المذكورة آنفًا، وسواها. فالظلمُ ظاهرةٌ سلبيَّةٌ مقيتةٌ، وآفةٌ اجتماعيةٌ بالغةُ الأثر على أبناء المجتمع الواحد، لا سيّما بين الأقارب والجيران؛ مصداقًا لقول طرَفة بن العبد: (وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً *** عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ). وعاقبة الظلم وخيمة، كما أقرَّ يزيد بن الحكم الثقفي: (وَالبَغيُ يَصرَعُ أَهلَهُ *** وَالظُلمُ مَرتَعُهُ وَخَيمُ). ولا تقتصرُ آثارُ الظلم على المدى القصير، بل قد يمتدُّ آثارُه عقودًا بعد عقود، وأجيالًا بعد أجيال.
لذا شدّد الشارعُ الحكيم في النهي عنه، وغلَّظ في تحريمه، بل إنه قد حرَّمَه على نفسه، كما نصَّ على ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه تعالى، أنه قال: "يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا". رواه مسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي ذر الغفاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ"، رواه مسلمٌ وغيره عن جابر بن عبد الله. وكما أنّ الشارعَ الحكيم قد نهى عن الظلم، وحثَّ على مناصرة المظلوم، فإنه بالمقابل أيضًا حثَّ على الأخذِ بيدي الظالم رحمةً منه تعالى ورأفةً بحال هذا المخلوق الضعيف الذي لا يقوى جسمُه الهزيلُ على تحمّلِ سعيرِ جهنم ونار لظاها الملتهبة التي تشوي الوجوه والأبدان، وتنزعُ بشدة حرِّها جلدة الرأس وسائر أطراف البدن؛ إذ لا مناص لهم ولا حيلة حينئذٍ من ذلك، فقد حقَّت عليهم كلمةُ ربِّك: " كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى" (سورة المعارج)، ناهيك عن تبديل المولى تعالى جلودهم كلمّا نضِجت زيادةً في التعذيب والإيلام، وكناية عن دوام العذاب لهم: "كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ" (النساء: 56). ولذلك أمرنا النبي صلى عليه وسلم في ما رواه البخاري عن أنس بن مالك في روايتين، بقوله: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قَالُوا يَا رَسُولَ الله: هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا، قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ"، وقوله صلوات الله عليه: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله: أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ، قَالَ: تَحْجُزُهُ (تَحْجُرُهُ) أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ".
وللأسف الشديد يتهاون كثيرٌ من المسلمين في تأدية ما عليهم من حقوقٍ وواجباتٍ تجاه دينهم وأوطانهم ومجتمعاتهم وأقاربهم وجيرانهم. فالظلمُ ليس مقتصرًا على الجوانب المادية الملموسة فحسب، بل يشمل الجوانب المعنوية المجردة؛ في التربية الحسنة والتعليم الجيِّد وترسيخ مبادئ الأخلاق وقِيَمها، وتوفير وسائل العيش لمن نحن مسؤولين عنهم؛ لذا يشدّد المصطفى على ذلك، بأسلوب تحضيضي بقوله: "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِه،ِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤولَةٌ علَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤولَةٌَ.."


يجتمع الخصوم عند الله


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


تحية بعد : مقال مثمر و زكي يذكرنا بآيات من الذكر الحكيم


حفظك الله ورعاك أخي العزيز.


يتبع الجزء الثاني من المقال