التَّأْثيراتِ الأَخْلاقيَّةِ لِلْحَضارَةِ الإِسْلاميَّةِ عَلي الحَضارَةِ الغَرْبيَّةِ (الجزء الثاني)
د. محمد إمام أحمد مغربي | Dr. Mohammed Emam Ahmed Maghreby
15/04/2020 القراءات: 2263
إنّ هناك قيماً كثيرة نعرفها جميعاً لأنّنا نتعامل معها سلباً وإيجاباً في كل يوم، بل في كل دقيقة، في بيوتنا ومدارسنا وأسواقنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا كافة، مثل: الصدق،والأمانة،والوفاء،والشجاعة، والإخلاص، والإحساس بالمسؤولية، ويقظة الضمير،والمروءة،والإيثار، واحترام الكبير،والعطف على الصغير، ومراعاة حقوق الجار،والجد في العمل والالتزام بالمواعيد وعدم نكث العهود والمحبة والتضحية...إلخ.
لنتصور مجتمعاً من المجتمعات التزم بهذه القيم في حياته اليومية، ونشاطه العملي، كيف سيتقدم في مضمار الرقي الحضاري، وكيف أنّه بتخلّيه عنها سيتأخر بلا شك، وسيدع المجال للأُمم والجماعات الأكثر إلتزاماً بهذه القيم لكي تسبقه وتتفوق عليه.
وإذا نظرنا إلى التاريخ فإنّنا نستطيع أن نفسر انهيار وزوال الكثير من الدول والإمبراطوريات والحضارات بهذه العامل الأخلاقي تحديداً.
ولابــد لأي أمــة أن تقــيم حضــارتها مــن العنايــة بجانــب الأخــلاق، إذا لــم تكــن هنــاك أخــلاق فلــن تكون هناك حضارة، وكل أمة لا تقيم حضارتها على أساس خلقي فلن تبقى حضارتها إذ سرعان ما تسقط، فالأخلاق هي كـل شـيئ فـي أي حضـارة إنسـانية علـى وجـه الأرض، الأخـلاق ركيـزة مـن ركــائز الحضــارة، وهــي الــروح التــي تســري فــي عروقهــا[ عمار توفيق بدوب،مقومات الحضارة وعوامل أفولها من منظور القران الكريم ، رسالة دكتوراة ، ص53].
ويقول الدكتور عبد دراز في كتاب " دستور الأخلاق في القرآن " : يستند أي مذهب أخلاقي جدير بهذا الاسم -في نهاية الأمر- على فكرة الإلزام ، فهو القاعدة الأساسية، والمدار، والعنصر النووي الذي يدور حوله كل النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية ذاته؛ وفناء ماهيتها؛ ذلك أنه إذا لم يعد هناك إلزام فلن تكون هناك مسئولية، وإذا عدمت المسئولية، فلا يمكن أن تعود العدالة؛ وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام، وتعم الهمجية، لا في مجال الواقع فحسب، بل في مجال القانون أيضًا، وطبقًا لما يسمى بالمبدأ الأخلاقي . [محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن ].
أولاً : مفهوم الحضارة :
إن تحديد معاني المصطلحات من الأهميّة بحيث أنّ إهماله قد يؤدّي إلى إجهاض كثير من الأبحاث والدراسات والمؤلّفات . ذلك أنّ الدراسة التي تستخدم مصطلحاً ما أو مصطلحات عدّة من تلك التي قد تتعدّد أفهام القرّاء لها ، تحتاج في بدايتها إلى توضيح المعنى المراد أداؤه من المصطلح المشكل حين يرد في نصوصها ، وإلاّ فإنّ القارئ سوف يعجز عن الوصول إلى مراد الكاتب، الأمر الذي سيحول دون أداء الدراسة هدفها المطلوب ، وربما أدّى غموض المصطلح إلى أن يفهم القارئ معنى آخر غير الذي أراده الكاتب، وهذا ما لا يرضي هذا الأخير بحال من الأحوال .[ أحمد القصص، نشوء الحضارة الإسلامية، ص7 ] .
۱ - تعريفها لغة واصطلاحا :
« الحضارة » في اللغة وكما ورد في " لسان العرب " : « الإقامة في الحضر . . .والحضر والحضرة والحاضرة : خلاف البادية ، وفي المدن والقرى والريف »
إذن، حين تُذكر الحضارة في اللغة فإنّه يقصد بها ما هو عكس البداوة ، أي سكني المدن والقرى .
الحضارة : الإقامة في الحضر . فلان حضارة أقام في الحضر و الغائب حضورا قدم والشيء و الأمر جاء والصلاة حل وقتها ، وعن فلان قام مقامه في الحضور و المجلس و نحوه شهده و الأمر فلانا نزل به وفي التنزيل العزيز (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [ إبراهيم مصطفي وآخرون، المعجم الوسيط، مادة حضر، ص377] .
وإذا كانت الحضارة تعني في أصل اللغة إقامة مجموعة من الناس في الحضر ، أي في مواطن العمران ، سواء كانت مدنّا أم حواضر أم قرى ، فإن معناها قد توسع عند المؤرخين والباحثين الاجتماعيين حتى صار شاملاً لجميع أنواع التقدم والرقي الإنسانيين ؛ لأنهما لا يزدهران إلا عند المستقرين في مواطن العمران [ عبد الرحمن الميداني، الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين، ج1 ، ص19 ] .
إلا أن هذا المعنى هو المعنى اللغوي للكلمة ، والمعنى اللغوي هو غير المعنى الاصطلاحي ولو كان ذا صلة به . ومرادنا في هذا الجزء الوقوف على المعنى الاصطلاحي للحضارة .
« الحضارة » بمعناها العام ، ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة ، اي ثمرة الجهود المبذولة من قبل الفكر الانساني للاستفادة من الاجهزة الكونية المتناثرة حولنا [ محمد سعيد رمضان، منهج الحضارة الإسلامية في القرآن ، ص19 ]. أو هي الجانب الآخر غير المادي في حياة الأمة وهي العلم والتصورات والأفكار والسلوك والآداب وكل المعاني التي تدخل في الجانب المادي .
وقد كان ابن خلدون (ت 808 هـ ) أول من عرف الحضارة اصطلاحا فقال : " ...والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله، فلكل واحد منها صنائع في استجادته والتأنق فيه تختص به ويتلو بعضها بعضاً.[ تاريخ ابن خلدون، ج1 ، ص172 ].
ومن العلماء من عَرَفها بأنها « كل مايُنشِئه الانسان في كل ما يتصل بمختلف جوانب نشاطه ومعانيه، عقلاً وخلقاً ، الفكري والمادي » أو باصطلاح آخر : الروحي والمادي .
وبعض الباحثين يرى أن الحضارة الحقّة هي التي تطلب إلى الانسان في مظاهر الحياة كافة ان يتذكر الله، ويتذكر فطرته هو بحيث يستطيع أداء دور خليفة الله، وهو الدور الذي وجد فيه على هذه الأرض [ محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص6].
وقد تكلم " صامويل هانتنجتون " في كتابه « صدام الحضارات » عن الحضارة . فالحضارة عنده" كيان ثقافي "، وأن الانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية، والمصدر المسيطر للنزاع سيكون " ثقافياً " وأن الحضارات هي أعلى تجمع ثقافي للناس و أوسع مستوى للهوية الثقافية للشعب . . .، [ صامويل هانتنجتون، صدام الحضارات، ص18 -19].
التَّأْثيراتِ الأَخْلاقيَّةِ لِلْحَضارَةِ الإِسْلاميَّةِ عَلي الحَضارَةِ الغَرْبيَّةِ
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع
مواضيع لنفس المؤلف
مواضيع ذات صلة