مدونة ا.م.د. شيماء رشيد محمد زنكنة


موقف النحويين القدماء من مصطلح النص.

أ.د. شيماء رشيد محمد زنكنة | Prof. Dr. Shaima Rashid Mohamed Zangana


09/10/2020 القراءات: 1909  


لا مناص لنا ونحن نعتزم بيان مفهوم النصّ، من أنْ نبدأ بتدبُّر المفهوم اللغوي والاصطلاحي لهذا المصطلح.
النصُّ (Text) لغةً:
إذا عدنا إلى المعجمات العربية فإنَّنا نجدُ لمادة (ن ص ص) عدَّة معانٍ منها: الرفع، والاختيار، "فالنصُّ: رفعك الشيء، ونص الحديث نصَّه نصَّاً: رفعه، وكلُّ ما أُظهِر فقد نصَّ... ، وانتصَّ الشيء أي اختاره ...، النصِّيَّة الخيار الأشرف، ونواصي القوم مجمع أشرافهم". وورد في القاموس المحيط أنَّ "نصَّ الحديث إليه: رَفَعَهُ، وناقته استخرج أقصى ما عندها من السَّيرٍ، والشيء حرَّكه ...، وهو نصاص الأنف، والمتاع: جعل بعضه فوق بعض، وفلاناً استقصى مسألته عن الشيءِ، والعروس أقعدها على المنصَّةِ ... وهو ما ترفع عليه فانتصَّت، ... والنصُّ: الإسناد إلى الرئيس الأكبر والتوقيت، والتعيين على شيءٍ ما، ...، ونصَّص غريمه وناصَّه: استقصى عليه وناقشه، وانتصَّ: انقبض، وانتصب، وارتفع...".
ومَّما تقدَّم عرضه يظهر أنَّ للنصِّ في اللغة عدَّة معانٍ منها: رفع الشيء، والحركة والإظهار، والشرف والرفعة، ومنتهى الشيء وغايته، والإسناد، والانتقاء، والمناقشة.
أمَّا في الاصطلاح فقد عرَّف الشريف الجرجاني(ت816هـ) النصَّ بقوله: " هو ما لا يحتمل إلَّا معنًى واحداً، وقيل ما لا يحتمل التأويل "، أو هو "ما ازداد وضوحاً على الظاهر لمعنًى في المتكلم، وهو سَوقُ الكلام لأجل ذلك المعنى، فإذا قيل أحسنوا إلى فلان الذي يفرح بفرحي، ويغتمُّ بغمِّي كان نصَّاً في بيان محبته".
أمَّا معنى النصّ في اصطلاح اللسانيين المحدثين هو: "سلسلة لسانية محكيَّة أو مكتوبة، وتشكِّلُ وحدة تواصلية"، سواء أكانت متتالية من الجمل، أو من جملةٍ وحيدة، أو من جزءٍ من الجملة.
فدلالة النصِّ لغوياً تشير من خلال ما سبق ذكره: إلى التماسك والترابط والالتحام والانسجام والتضام بين أجزاء النصّ ومكوناته.
إذا نظرنا في التراث العربي ولاسيما في أصول الفقه والبلاغة والدراسات القرآنية نجد أنَّ أبحاثَهم عميقةٌ جداً سبقت اللسانيات النصِّية بقرون متعددة، وذلك عن طريق ما قدَّمه علم أصول الفقه من قوانين دلالية تحاول رصد النصِّ برؤية شاملة من خلال علاقات وآليات غايتها ربط أجزاء النصِّ للوصول إلى المقصد الأقرب للنص الذي يختفي وراء وسائل التماسك النصِّي التي تنبهوا عليها، فضلاً عن أنَّ في الدراسات الإعجازية للقدماء محاولات نصيَّة متميزة، عن طريق اعتمادها على دراسة الآية إطاراً للتحليل، متجاوزة دراسة الجملة إلى البحث في وسائل تماسك النصّ الكلي، وعن طريق رصدهم العلاقات التماسكية بين سور القرآن الكريم وآياته، ودراستهم للمناسبة بين الآيات والسور، وربط آي القرآن بعضها ببعض، فمن الدراسات القرآنية التي ترقى إلى مستوى الدراسات النصِّية الحديثة على سبيل المثال كتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي(ت794هـ)، و(الإتقان في علوم القرآن) للسيوطي (ت911هـ).
أمَّا مصطلح النصّ في الدراسات النحوية فلم أجد له صدى لدى النحويين في حدود اطلاعي، ولم يُعرف بمسمَّاه الاصطلاحي المعاصر، إذ لم يتداول النحويون الأوائل هذا المصطلح بمفهومه الحديث، بل اهتدوا إلى أسسه و أصوله وأسَّسوا لها خير تأسيس. واستلهم القدماء دلالة النصّ الشمولية من مفهوم النحو الكلي، فكانوا يقصدون من النحو معاني الجمل وبيان أنظمة تأليفها، وعلاقاتها وما يعرض لها من ظواهر التقديم والتأخير، مع مراعاة ضوابط التأليف، ووضع الجمل في مواضعها.
وأثبتت الدراسات اللسانية الحديثة أنَّ العلماءَ العرب قدَّموا نظرية نحوية نصِّية متكاملة في كتب الإعجاز القرآني، وكتب البلاغة والنقد الأدبي وعلوم التفسير وعلوم القرآن.
انطلق النحويون في دراستهم للنص القرآني من الجملة القرآنية، أو الآية ثم انتقلوا به إلى مستوى تحليل أكبر وهو (النصّ) ، فالتحليل النحوي عند العرب لا يقف عند حدود الجمل، والكلمات، بل يمتدُّ إلى العبارة وما بعدها. ويرتكز النصّ على الجملة ارتكازاً شديداً ولا يمكن الفصل بينهما غير أن تجاوز نحو النصِّ حدود الجملة في التحليل يسمح بطرح إمكانات متعددة للفهم وفضاءات أرحب للتفسير.
بحث النحويون القدماء مفهوم (النصّ) وأقاموا نحوهم على أُسسٍ نصِّيةٍ معنويةٍ، فكان لهم فضلُ الاهتداء المبكر إلى مواطن الفصل والوصل، وتعلّق الكلام واتصال أوله بآخره، ومواضع الوقف والابتداء، وابتداء الكلام وانقطاعه واستئنافه. وكانت لهم نظراتهم العميقة، وفهمهم الدقيق لأنظمة الربط النحوي والتماسك, فلم يقتصر الأمر على ذلك، بل اعتمدوا على روابط خارجية غير لغوية وهي (السياق والمتكلم والمتلقي). وهذا يثبت أن دراسة النحاة لم تكن دراسة شكلية بل دراسة عميقة فلم يقتصروا على الروابط الداخلية وإنما الروابط الخارجية، ومنها إبراز أثر المشاركين في العملية اللغوية ووظيفة السياق في تفسير جوانب النصّ. ويظهر ذلك في التحليل اللغوي للنص في كيفية اختيار المبدع لأدواته اللغوية مثل، الأدوات والضمائر، والأزمنة، والتكرارات، والحذف، والمقابلات، والجمل ... أي الاهتمام بالعلاقات الداخلية والخارجية.
واتضحت ملامح النظرية النحوية النصِّية بشكل جلي عند عبد القاهر الجرجاني في تحديده مفهوم النص، فالنص باصطلاح الجرجاني هو (النظم)، وإن بناء النص وإنتاجه لا يكون إلا بقوانين وآلياتٍ خاصة وهي قوانين النحو وأصوله.
ويرى عددٌ من الباحثين أنَّ الجرجاني انطلق من وعيه المتقدم, وفهمه لطبيعة علم النحو فهماً علمياً دقيقاً وبحث جزئيات (نحو النصِّ) وقد انتقل بالنحو من مستوى نحو الجملة إلى مستوى نحو ما فوق الجملةِ وهو (نحو النصِّ).
أُخلِصُ ممَّا تقدَّم أنَّ النحويين العرب من خلال بحوثهم العميقة للنصِّ القرآني، ودراساتهم الواسعة في إعجاز القرآن الكريم، كانوا على دراية تامَّة بالوحدة النصَّية القرآنية، وإنَّها كانت حاضرةً في أذهانهم من خلال دراساتهم لتماسك النصّ القرآني وأسرار ترابطه، إلَّا أنَّهم لم يضعوها في ضمن إطار نظرية نحوية نصِّية؛ لافتقارهم إلى التنظير الذي وجدناه عند اللسانيين المحدثين بعد قرون عدة.


موقف، النحويين، النص.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع