مدونة د. محمد إمام أحمد مغربي


التَّأْثيراتِ الأَخْلاقيَّةِ لِلْحَضارَةِ الإِسْلاميَّةِ عَلي الحَضارَةِ الغَرْبيَّةِ (الجزء الأول)

د. محمد إمام أحمد مغربي | Dr. Mohammed Emam Ahmed Maghreby


10/04/2020 القراءات: 3211   الملف المرفق




التَّأْثيراتِ الأَخْلاقيَّةِ لِلْحَضارَةِ الإِسْلاميَّةِ عَلي الحَضارَةِ الغَرْبيَّةِ ( الجزء الأول )

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد :...
اهتم الإسلام بأمور الأخلاق،وعني به عناية كبيرة وفائقة، ووضع لها قوانين دقيقة ونظم أمورها تنظيما شاملا، وتطرق حتى إلي أبسط جزئية لها من آداب الأكل والنوم والشرب والغائط والبول وغيرها، لكي يقوم المجتمع الإسلامي على أسس قوية ومتينة ،ويكون مجتمعاً مثالياً وحقيقيا خاليا من العيوب والنقائص على العموم ، كما ينشأ و يتربي كل مسلم على أخلاق حميدة و عالية ، ويكون نموذجاً حياً ومثالياً للإسلام وقدوة حسنة أمام الغير، ويكون قمة في أخلاقه.
وذكر الراغبُ الأصفهاني (توفي 502ه ) : أن الخليفة المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية مَنْ يقول لهم: "ما أشدَّ ما مرَّ بكم في هذا الحبس؟ قالوا: ما فَقَدنا من تربية أبنائنا".
ولم تَحْظَ الحضارات السابقة والمعاصرة بإسهام كبير ولا دور بارز في جانب الأخلاق والقيم، ويشهد على ذلك علماء الغرب ومُفَكِّروهم؛ فيقول الكاتب الإنجليزي جود : إن الحضارة الحديثة ليس فيها توازن بين القوة والأخلاق؛ فالأخلاق متأخِّرَة جدًّا عن العلم، فقد منحتنا العلوم الطبيعية قوَّة هائلة، ولكننا نستخدمها بعقل الأطفال والوحوش. [أنور الجندي،مقدمات العلوم والمناهج ،ج4،ص770].
والحقيقة أيضًا أن هذا الجانب - جانب الأخلاق والقيم- لم يُوَفَّ حقُّه إلا في حضارة المسلمين، تلك التي قامت في الأساس على القيم والأخلاق، وبُعث رسولها خاصة ليُتَمِّمَ مكارم الأخلاق ويكملها، وذلك بعد أن تشرذمت وتفرَّقت وأُهْمِلَتْ بين الأمم والحضارات. فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ﷺ : إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق " . [مسند الإمام أحمد بن حنبل] .
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:( لما بلغ أبا ذر مبعث النبي ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ) . [صحيح البخاري] .
وقد وقد وصفه ربه سبحانه وتعالي بقوله: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم :الآية 4]. مؤكداً بذلك أنّ أحد العوامل الأساسية لنجاح الحضارة الإسلامية وتمكنها من تحقيق أهدافها الكبرى إنّما كان بما تميّز به نبينا العظيم ﷺ من خلق عالٍ أريد لهذه الأُمّة قيادات وشعوباً أن تسير على هديه فيه لكي تكون سيدة في هذا العالم.
ولعل أهم أسباب الرقي الحضاري ومقومات النهضة الحقيقية : التمسك بالأخلاق الفاضلة، سواء على المستوى الفرديّ أو على المستوى الجماعيّ، فإن صلح الفرد صلح المجتمع، وهي ركيزة أساسية في تهذيب السلوك الإنساني وتنظيم العلاقات على أسس قويمة من السمو الروحي والمعاملة الجميلة، وعنصر فعال في شيوع المحبة والألفة والتماسك والترابط في المجتمع، أفراداً وأسراً وشعباً وقيادة، ومنبع رئيس للتعايش السلمي البناء مع الأمم الأخرى.
ولعل واحداً من أهم عوامل انهيارنا الحضاري عبر القرون الأخيرة، هو ضعف، وربّما غياب، الوازع الخلقي الذي هو أساس يقظة الضمير وفاعلية الأُمّة، وقدرتها على العطاء والإبداع.
ومن قبل كان الشاعر المعروف "أحمد شوقي" قد جمع هذه المعاني في بيت من الشعر تناقلته الأجيال بما انطوى عليه من معانٍ ودلالات :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت **** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
مما لا شك فيه أن حضارات الأمم تبني بالأخلاق والقيم وأن انهيارها مرتبط بالانحلال والانحراف عن منهج الله الواحد الأحد. ولا يمكن لأي حضارة أن ترتفع بدون الأخلاق وصدق الشاعر حين قال :
وليس بعامر بنيان قوم *** إذا أخلاقهم كانت خرابا
يقول ابن خلدون : " ... إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملتهم على ارتكاب المذمومات و انتحال الرذائل و سلوك طرقها فتفقد الفصائل السياسية منهم جملة و لا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم و يتبدل به سواهم ليكون نعيا عليهم في سلب ما كان الله قد أتاهم من الملك و جعل في أيديهم من الخير ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) [ سورة الإسراء: الآية16]. و استقرىء ذلك و تتبعه في الأمم السابقة تجد كثيرا مما قلناه و رسمناه و الله يخلق ما يشاء و يختار "[ تاريخ ابن خلدون].
والحضارة الإسلامية ما ارتفعت أعلامها في شتى بقاع المعمورة مرفرفة عالية قرونا متعددة إلا لكون العنصر الأخلاقي كان أساسا من أسس مكوناتها وكثير من الحضارات التي قامت وارتفعت انهارت واندثرت بسبب انحرافها عن منهج الله تعالى ومعاداة رسله ، وإتباع الهوى ، فهناك حضارة عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد ، وهناك حضارة ثمود، وحضارة الفراعنة ، وقوم لوط، وقوم شعيب، كل هؤلاء عصوا رسل ربهم وتبعوا أهواءهم فحق عليهم القول فدمروا تدميراً.


التَّأْثيراتِ الأَخْلاقيَّةِ لِلْحَضارَةِ الإِسْلاميَّةِ عَلي الحَضارَةِ الغَرْبيَّةِ


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع