حقيق أن تكتب بماء الذهب 3/3
يوسف الحزيمري | Youssef El hzimri
11/12/2021 القراءات: 2048
ونجد أيضا حكايات قيل فيها أصحابها أنها حقيقة بأن تكتب بماء الذهب، منها ما أورده الإمام أبي إسحاق الشاطبي في الاعتصام وهي: "ما يحكى عن محمد بن خفيف؛ قال: دخلت يوما على القاضي علي بن أحمد، فقال لي: يا أبا عبد الله! قلت: لبيك أيها القاضي، فقال: هاهنا أحكي لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب. فقلت: أيها القاضي! أما الذهب فلا أجده، ولكني أكتبها بالحبر الجيد. فقال: بلغني أنه قيل لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: إن الحارث المحاسبي يتكلم في علوم الصوفية، ويحتج عليه بالآي، فقال أحمد: أحب أن أسمع كلامه من حيث لا يعلم. فقال رجل: أنا أجمعك معه. فاتخذ دعوة، ودعا الحارث وأصحابه، ودعا أحمد. فجلس أحمد بحيث يرى الحارث، فحضرت الصلاة، فتقدم وصلى بهم المغرب، وأحضر الطعام، فجعل يأكل ويتحدث معهم، فقال أحمد: هذا من السنة.
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه، فقال: من أراد منكم أن يسأل شيئا فليسأل، فسئل عن الإخلاص، وعن الرياء، ومسائل كثيرة فأجاب عنها، واستشهد بالآي والحديث، وأحمد يسمع لا ينكر شيئا من ذلك. فلما مر هوي من الليل أمر الحارث قارئا يقرأ شيئا من القرآن على الحدر، فقرأ، فبكى بعضهم وانتحب آخرون، ثم سكت القارئ، فدعا الحارث بدعوات خفاف، ثم قام إلى الصلاة. فلما أصبحوا قال أحمد: قد كان بلغني أن ها هنا مجالس للذكر يجتمعون عليها، فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئا.
ففي هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع"[21]
ومنها ماورد في "التقييد الكبير في تفسير كتاب الله المجيد"، لمؤلفه أبي العباس البسيلي التونسي قال: "قال شيخنا ابن عرفة: كان الشيخ ابن عبد السلام يحكي: أنه كان هناك طالب يتحدث أنه كان في بلاد الجريد بعض المدرسين له طالب جلف بليد فصُرِعَ ذلك الطالب البليد ذات يوم فجاوبه بعنف فقال المدرس:
أعلمه الرماية كل حين ... فلما اشتد ساعده رماني
فقال له ذلك الطالب: أخطأت إنما هو " استد " بالسين المهملة فدلّ على أن الجنِّي نطق على لسانه، والبيت يُروى بالوجهين معا. وجرى ذكر هذا البيت بمجلس السلطان أبي العباس بحضرة شيخنا ابن عرفة، وكبار طلبته، وذكر الروايتين، فقال السلطان الصواب عندي أنه بالسين المهملة؛ لأنه الذي من فعل العلم، والحاصل من تعليمه فقال له بعض الطلبة الحاضرين: يحق لهذا الكلام أن يكتب بماء الذهب[22].
وعندما تكون الشهادة في كتب التراجم من عارف خبير بحق عالم كبير، فحقها أن تكتب بماء الذهب، منها ما جاء في قول الأهوازي في ترجمة "عبد الله بن عامر الشامي" حيث وصفه بقوله: «كان عبد الله بن عامر إماما عالما ثقة فيما أتاه، حافظا لما رواه، متقنا لما وعاه، عارفا فهما، قيّما فيما جاء به، صادقا فيما نقله، من أفضل المسلمين وخيار التابعين، وأجلّة الراوين، لا يتّهم في دينه ولا يشكّ في يقينه، ولا يرتاب في أمانته، ولا يطعن عليه في روايته، صحيح نقله فصيح قوله، عليا في قدره مصيبا في أمره، مشهورا في عمله، مرجوعا إلى فهمه، لم يتعدّ فيما ذهب إليه الأثر، ولم يقل قولا يخالف فيه الخبر»[23].
قال الشيخ "محمد أحمد مفلح القضاة": "وهذه الشهادة من الأهوازي وهو العالم الجليل والقارئ الكبير جديرة أن تكتب بماء الذهب، لأنها شهادة من عارف خبير بحق عالم كبير، ولأنها أبرزت جوانب من صفات ابن عامر وأخلاقه، جديرة أن تكون محل القدوة والتأسي"[24]
ونختم هذا المقال الذي نعتبره حجر أساس في البناء عليه، في البحث عن خلفيات التعبير بالكتابة بالذهب، والذي أضحى ميسما يسم الحضارة الإسلامية في إنتجاها المختلف، سواء كان علما أو عمارة، بعبارة تخص أحقية النكت العلمية بالتذهيب وردت عن محمد علاء الدين الحصكفي ابن الشيخ علي الإمام بجامع بني أمية ثم المفتي بدمشق المحمية الحنفي في كتابه "الدر المختار في شرح تنوير الأبصار" حيث قال: "وما كان قصدي من هذا أن يدرج ذكري بين المحررين. من المصنفين والمؤلفين. بل القصد رياض القريحة وحفظ الفروع الصحيحة. مع رجاء الغفران. ودعاء الإخوان، وما علي من إعراض الحاسدين عنه حال حياتي فسيتلقونه بالقبول إن شاء الله تعالى بعد وفاتي، كما قيل:
ترى الفتى ينكر فضل الفتى ... لؤما وخبثا فإذا ما ذهب
لج به الحرص على نكتة ... يكتبها عنه بماء الذهب"[25]
ومن التذهيب في العمارة ما ورد في كتاب "المستطرف في كل فن مستطرف": "قال بعض الرواة: دخلت مدينة يقال لها: دقار، فبينما أنا أطوف في خرابها إذا رأيت مكتوبا بباب قصر خرب بماء الذهب هذه الأبيات:
يا من ألحّ عليه الهمّ والفكر ... وغيّرت حاله الأيام والغير
أما سمعت لما قد قيل في مثل ... عند الاياس فأين الله والقدر
ثمّ الخطوب إذا أحداثها طرقت ... فاصبر فقد فاز أقوام بما صبروا
وكلّ ضيق سيأتي بعده سعة ... وكلّ فوت وشيك بعده الظفر"[26]
كتابة - ماء الذهب
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع