الموالاة الدينية وتوارث القيم
يوسف الحزيمري | Youssef El hzimri
20/03/2022 القراءات: 1741
الموالاة الدينية وتوارث القيم
تركيب: د.يوسف الحزيمري
لله تعالى من عباده أصفياء، يصطفيهم ويختارهم، ويمن عليهم بالفضائل العالية، والنعوت السامية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والخصائص المتنوعة، فذكر هذه البيوت الكبار، وما احتوت عليه من كمال الرجال، الذين حازوا أوصاف الكمال، وأن الفضل والخير تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم، وهذا من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه[1].
فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [آل عمران: 33، 34].
هذه الآية الكريمة من جوامع القرآن الكريم، حيث أشارت إلى وحدة الإنسانية، وعودتها إلى آدم أبو البشر الأول، وإلى نوح أبو البشر الثاني بعد الطوفان، وإلى وحدة الاصطفاء بالنبوة والرسالة بعودتها إلى آل إبراهيم وآل عمران عليهم السلام، والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاتم النبوة والرسالات، القائل: (كلكم من آدم وآدم من تراب)[2] والقائل: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)[3] ، في إشارة إلى وحدة رسالة الأنبياء، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]
كما أشارت الآية إلى الموالاة الدينية، فقوله تعالى:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له"[4]
قال الراغب الأصفهاني: "قوله: (بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ) يعني في الموالاة الدينية، لقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] في التناصُر والدين، وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67]؛ يعني في الضلالة، وقوله لنوح: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] "[5] ، قال بعض الحكماء: "إن الابن إذا لم يفعل ما يفعل الأب انقطع عنه، والأمة إذا لم يفعلوا ما فعل نبيُّهم، أخاف أن ينقطعوا عنه"[6].
و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل،...وقيل: من، للتبعيض مجازا أي: من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوة[7].
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: "وقد أجمل البعض هنا: لأن المقصود بيان شدة الاتصال بين هذه الذرية، فمن للاتصال لا للتبعيض؛ أي بين هذه الذرية اتصال القرابة، فكل بعض فيها هو متصل بالبعض الآخر، كما تقدم في قوله تعالى: {فليس من الله في شيء} [آل عمران: 28]"[8].
وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: "وحين يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} فلنا أن نسأل: هل المقصود بذلك الأنساب أم الدين والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلام أن الأنساب بالدم واللحم عند الأنبياء لا اعتبار لها، وإنما الأنساب المعترف بها بالنسبة للأنبياء هي أنساب القيم والدين. وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .
فردها الله عليه قائلا: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124][9].
وهو ما أكده سيد قطب رحمه الله بقوله: "وليس من الضروري أن تكون ذرية النسب- وإن كان نسب الجميع يلتقي في آدم ونوح- فهي أولاً رابطة الاصطفاء والاختيار الإلهي ونسب هذه العقيدة الموصول في ذلك الموكب الإيماني الكريم"[10]
وقال السعدي رحمه الله: "فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من العالمين، وتسلسل الصلاح والتوفيق بذرياتهم، فلهذا قال تعالى {ذرية بعضها من بعض}؛ أي: حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والأخلاق الجميلة، كما قال تعالى لما ذكر جملة من الأنبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] "[11]
الهوامش:
1. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 965)
2. عزاه في الجامع الصغير: "2/ 94" إلى البزار عن أبي حذيفة بلفظ: "كلكم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب" ونحوه عند أبي داود من حديث أبي هريرة "4/ 331". وعند الترمذي من حديث ابن عمر "5/ 389"
3. رواه مالك عن طلحة بن عبيد لله بن كريز مرسلا، وأخرجه الترمذي وحسنه عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وزاد: له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، ورواه البيهقي عن أبي هريرة بلفظ أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل قولي وقول الأنبياء قبلي لا إله إلا الله - الحديث، وزاد بعد وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير. انظر: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي الجراحي العجلوني الدمشقي، أبو الفداء (المتوفى: 1162هـ)، الناشر: المكتبة العصرية، تحقيق: عبد الحميد بن أحمد بن يوسف بن هنداوي، الطبعة: الأولى، 1420هـ - 2000م ط القدسي (1/ 153)
4. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (6/ 328)
5. تفسير الراغب الأصفهاني (2/ 527)
6. تفسير السمرقندي = بحر العلوم (2/ 153)
7. البحر المحيط في التفسير (3/ 112)
8. التحرير والتنوير (3/ 231)
9. تفسير الشعراوي (3/ 1431)
10. في ظلال القرآن (1/ 391)
11. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 129)
الموالاة- الدينية-توارث- القيم
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع