مدونة أ.د. ياسر عبد الفتاح عبد الهادي


الهبوط على المريخ بين العزيمة والإحباط

أ. د. ياسر عبد الفتاح عبد الهادي | Prof. Dr. Yasser Abdel-Fattah Abdel-Hadi


14/05/2021 القراءات: 809  


منذ نجاح عملية هبوط المسبار بيرسيفيرانس (التي تعني العزيمة) على المريخ أخذت تردني أسئلة من أصدقاء أعزاء على قلبي حول جدوى هذا كله وأهمية الانسياق وراء مثل هذه الأحداث التي من الممكن ان تكون مجرد صنيعة إعلامية لأهداف استراتيجية منها التغطية على أشياء أخرى. وكانت معظم الأسئلة مفادها هو ما جدوى أن نستمع إلى صوت الرياح على كوكب المريخ أو حتى أن نجد فيه حياة سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل ، مقارنة بالأولويات المفروضة تجاه البشرية ، من إطعام الجائعين وتأمين الخائفين ومداواة المرضى وإيواء المشردين.

والحقيقة أنني أرى هذه الأسئلة مشروعة فعلاً ، فلست ممن يؤمنون بالحَجْر على الفكر أو تحجيمه من أجل فرض حقيقة معينة أريد أو يريد غيري عن طريقي وطريق أمثالي فرضها على الجميع.


وإذا كان من الجميل جداً أن يطرح المرء مثل هذه الأسئلة المشروعة والمحترمة إلا أن الإجابة المختصرة هنا تكمن في اختلاف تفكير الدول عن تفكير الشعوب بكافة شرائحها. لكنني سأبدأ بالإجابة البسيطة التي قد تصل سريعة إلى العقول:

هل موضوع البحث عن الحياة واستكشاف الكون من أجل استعماره والسيطرة عليه أمر هين في حد ذاته؟ نحن لا نختلف على كون هذا كله وسائل للسيطرة على الموارد الأرضية والفضائية لأغراض متعددة ، منها الحميد ومنها غير ذلك. لكن هذا الكون منذ بدء البشرية أغرى الإنسان صاحب الفضول الذي لا ينتهي بالسعي إلى اكتشافه واستكشاف كل ما فيه بلا أية حدود لهذا النهم الذي تطور عبر الزمن مع تطور حياة الإنسان وتحسين أدواته ووسائله. فإذا أضفنا إلى ذلك أن صناعات أخرى تتطور بتطور أبحاث الفلك والفضاء (مثل صناعة البرمجيات والصواريخ والطيران والتصوير والتحكم عن بعد وغيرها بالإضافة إلى أبحاث في علوم أخرى يعود هذا التطور عليها بالنفع مثل علوم الفيزياء والفلك والأحياء والجيولوجيا والكيمياء وغيرها) كان ذلك معيناً على تصور الفائدة الكلية العظيمة الناتجة من هكذا خطوة في هكذا اتجاه.


فعلى سبيل المثال في موضوع السفر إلى الفضاء واستعماره واستغلاله وبالذات المريخ هناك أفكار وفلسفات تقف وراء هذا الأمر ، بداية من إشباع رغبة الدول المتسلطة في السيطرة على الكون ، ومروراً باستغلال الطاقات التي قد تكون في هذه الأبعاد البعيدة ، وقد لا تنتهي عند إيجاد ملاذات آمنة في تلك الكواكب البعيدة في حال انهيار أو فساد الحياة على الأرض وتخريبها بواسطة حروبهم المختلفة.

والحقيقة أن الإنسان بطبعه مفتون بالسعي وراء كل ما ذُكِرَ الأمور فضلاً عن البحث عن المجهول الذي قد نراه - من وجهة نظرنا - أمراً لا يستحق أن يكون من الأولوية بمكان بالمقارنة بما تفضل أصدقائي الأعزاء بذكره من أمور أخرى ، مثل إطعام الجائعين وشفاء المرضى وإعمار الأرض وغير ذلك من الأمور التي من المفروض أن يكون أمرها منتهياً لأنها حقوق مستوجبة لكل البشر.

لكن ما يدعو إلى الحزن والأسى هو الشعور الذي يتسرب فيك - رغماً عنك - بأن تكون الأوضاع الصعبة التي تعيشها دول العالم الثالث التي ننتمي إليها كانت هي - أو على الأقل أحد الأسباب - وراء انحسار الهمم والتفكير ونزول سقف التطلعات المشروعة إلى مجرد البحث عن الحقوق ، التي من المفروغ منه حصولها لكل بني البشر ، انطلاقاً من أن موارد الكون - بل الأرض وحدها - تكفيهم جميعاً مهما كان عددهم ، ولا يوجد هناك داعٍ من الأساس إلى أن يكون هناك جائع ولا مشرد ولا عارٍ ولا مظلوم ولا مهضوم ، لولا الظلم الذي في نفس الظالمين وأطماعهم وشهواتهم التي لا تنتهي.

ولا بد هنا أن نقول إن العلم قوة في حد ذاته ، وأن الأخذ به واجب حتمي تمليه احتياجات البشر الاعتيادية ، فضلاً عن كونه واجباً دينياً في عقيدتنا سواء على مستوى الأمم أو على مستوى أفرادها. لكن تفكير الأمم فيه وتناولها له غير تفكير الشعوب بكافة شرائحها ، ناهيك عن الأمم التي تعرف بالضبط ما تريد ، ولها سياسات ومخططات واضحة سواء كانت طيبة أو غير ذلك ، على عكس جمهوريات الموز التي لا تعرف لها مكاناً على خارطة الحضارة ، وتعيش عبئاً على التاريخ حالياً ، ولا تفخر إلا بماضٍ لا تعرفه حق المعرفة ، ولم تستطع الاستفادة منه في النهوض من أبسط كبواتها وأزماتها حتى تنكر لها الحاضر والمستقبل. ولهذا الحديث شجون كثيرة يطول شرحها والخوض فيها.

أ.د. ياسر عبد الفتاح عبد الهادي


الهبوط على المريخ ، المسبار بيرسيفيرانس


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع