مدونة د. طه أحمد الزيدي


حكم إخراج الصدقات عند نزول الوباء لدفعه

د. طه أحمد الزيدي | Dr. TAHA AHMED AL ZAIDI


30/03/2020 القراءات: 2600  


حكم إخراج الصدقات عند نزول الوباء لدفعه
يندب في الشريعة الفزع الى أداء بعض العبادات عند حصول النوازل والكوارث والقحط ، مما يؤدي الى هلاك الناس والحيوان والنبات، ومنها انتشار الأوبئة المهلكة التي تحل بالعالم فتحصد ارواح آلاف الناس وتعطل المصالح وتنشر الخوف والفزع، ولذلك نجد النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام يأمر الناس إذا نزلت الآيات بالمسارعة الى أداء بعض العبادات والأعمال الصالحة ومنها إخراج الصدقات، وهو من التوسل المشروع لكشف الضرّ؛ لأنّ أفضل ما يتوسل به العبد الذليل الضعيف الى ربّه الجليل اللطيف، عند نزول البلاء وحصول الوباء؛ لأجل كشفه عنه ورفعه ودفعه هو الفزع الى أداء عبادة مشروعة من صلاة ودعاء وصدقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ، فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا) (أخرجه البخاري 2/34)، قال ابن القيم رحمه الله: "النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالكسوف بالصلاة والعتاقة والمبادرة إلى ذكر الله تعالى والصدقة، فإنّ هذه الأمور تدفع أسباب البلاء" (الوابل الصيب، لابن القيم ص 141)، ونقل الحافظ ابن حجرٍ عن الطيبيُّ وغيره، رحمهم الله، قال: "أُمِروا باستدفاعِ البلاء بالذِّكر والدعاء والصلاة والصدقة". (فتح الباري لابن حجر، 2/531).
والتأكيد على إخراج الصدقات؛ عند انتشار الأمراض المهلكة وهي مظنة حصاد الأرواح برّها وفاجرها، لأنّها من أسباب العلاج والشفاء الذي هو بيد الله تعالى مسبب الاسباب قبل أن يكون على يد أسبابه من الأطباء والأدوية، لما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَصِّنُوا أموالكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وَأَعِدُّوا لِلْبَلَاءِ الدُّعَاءَ). (أخرجه الطبراني في الكبير 10/128)، بل يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته الى ثلاثة أشياء لمعالجة أحوج ما يكون الناس إليها عند نزول الوباء المعدي المهلك، وما يمثله من ابتلاء رباني وغضب إلهي، وما يتركه من ميتة مؤلمة سيئة يعامل صاحبها في المعايير الدنيوية على أنه شرّ ينبغي التخلص من جثته، وبه تقصر الأعمار فيهلك الولدان ويفنى الشباب فضلا عن الكهول ذوي العقول، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ) (أخرجه الطبراني في الكبير، 8/ 261، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/115)، قال ابن القيم رحمه الله، في بيان شأن الصدقة وآثارها في دفع البلاء: "فإنَّ للصَّدَقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر، فإنّ الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جرّبوه،.. وفي بعض الآثار: باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطى الصدقة". (الوابل الصيب، لابن القيم ص 31) .
بل إنّ الصدقة مِن أهمِّ أسباب دفع البلاء حتى قبل وقوعه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَعَظَ النَّاسَ، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، تَصَدَّقُوا»، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ»" (أخرجه البخاري واللفظ له، 2/120، ومسلم، 1/86 )، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفوائد:.. أنّ الصدقةَ تدفَعُ العذاب" (فتح الباري لابن حجر، 1/406).
ولذلك يجوز عند نزول بلاء منهك وحصول وباء مهلك، فتعطلت به المصالح والاعمال الدنيوية أو فرض بسببه حظر تجوال، إعطاء الصدقات للفقراء المتعففين، أو أصحاب الدخل المحدود وأصحاب المهن والأجور اليومية المعوزين، ومن صورها التصدق بإعفاء المؤجرين -من هؤلاء- من بدل الإيجار أو شطره أو جزء منه، سواء كان للسكنى أو العمل عند تعطيله لأمر قاهر، خارج عن إرادتهم كفرض حظر للتجوال أو إغلاقها بأمر رسمي لجائحة، وذلك مظنة تحقق الحرج بسبب ذلك، وهو ما يغلب على أحوال الناس في هذه الأيام العصيبة.
كما يجوز اعطاؤها للمراكز الصحية لتجهيزها بالمستلزمات الطبية والصحية التي يحتاجون إليها؛ لاستعمالها في عملهم، أو توزيعها على الناس؛ لوقايتهم من انتشار الأمراض الوبائية ، بل لو انفق أصحاب الأموال من التجار وغيرهم على بناء هذه المراكز وصرفوا إليها صدقاتهم وحتى الوقف عليها؛ لأجل اعمارها وتجهيزها بما تحتاجه من أجهزة طبية وأدوية ومستلزمات صحية ولاسيما عند الحاجة اليها في مثل هذه الظروف، وقصرت امكانيات السلطات عن ذلك، فهو أولى، ويدخل في تحقيق مقاصد الشريعة؛ لأن النفع هنا يتعدى الى الناس والمصلحة تعم كل الاجناس، وأمر الصدقات أوسع في مصارفها ومجالاتها من الزكاة فهي مطلقة ما دامت في دائرة المباح والنفع، والزكاة مقيدة بالمصارف الثمانية في الشرع. والله أعلم.

اللهم نعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيء الاسقام.
وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.


احكام كورونا- احكام الاوبئة- الصدقة عند الوباء- تعجيل الصدقات عند الوباء- الصدقاة للمرضى


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع