المفكرون بين غش ونصح..........................!
د.يوسف أحمد محمد | Yusuf Ahmed
18/03/2021 القراءات: 474
المفكرون بين غش ونصح!
هل كُتب على المفكر أن يجامل المخالف؟ هل عليه ألا يقف على أرض صلبة من أفكار يعتنقها بصرف النظر عن صحتها أو غلطها؟ وهل تُفرض عليه المناهج المعاصرة أن يكون مذبذبا لا يقول الحقائق كما يراها، هل من التحضر والإنصاف المراوغة العلمية والمجاملة على حساب الحقائق والإيمان والقيم؟
أقرأ أحيانا لبعض الكتَّاب اللامعين، والفكِّرين المقتدرين، فأعجب كيف يستلُّون الكلام المعسول المنمَّقَ من بين فرث ودم؛ وبين غثٍّ وسمين، وبين صحيح وسقيم، فيأتي صافيا مستقيما؛ لأنهم كالنحلة التي تختار من الرحيق ألذُّها، ومن الزهور أعبقها، فيصورون للقراء بأن مصدر نقلهم مصدر غني، وبأن صاحبه أتى تحريرا منقطع النظير، وأنَّ كتابه حَوى مِن المسائل ما لا يُستغنى عنه، فيدفع بذلك قرّاءه إلى اقتناء الكتاب، ودفع أموال باهظة في سبيل حصوله، كأنَّه أخذ عهدا غليظا مِن الكاتب أن يُسوِّق كتابه كما يُسوِّق السِّمسار البضاعةَ، وكما يُزيِّن صاحبُ الدِّعاية منتجه؛ وحينما يستقبل القارئ قراءة الكتاب كما يستقبل العَروس عروسه في ليلة زفافها، فينغمس في قراءته، ويداعب مع نهد صفحاته، ويجول مع ناظرتيه بين أسطره؛ فيصطدم بهول الغبن الذي أصابه، وأنه يستسمن ذا ورم، ويدرك بعد فوات الأوان أنَّ عروسه ما هي إلا عجوز شمطاء، تزورُّ عنها العيون ازورارا، ويتعافى عنها العقل إعافة الظمآن عن ماء زلال كان في أمسِّ الحاجة إليه لعلة في الماء.
وهذا القارئ المخدوع صار ضحية لقارئه الذي أعطاه ثقته، واختاره من بين القراء، وأعجم عِيدانه فَبَدا صاحب جدٍ واجتهاد، وصاحبَ خبرة عريقة ما في القراطيس من المعارف، وما ترميه الطابعات مِن المدونات، وما حوته الكَوَاغدُ من جديد العلوم، لكنَّه يذهب مَذهب مداهنة المنحرفين فكريا؛ لعلة التسامح والتحضر، ويرى عدم تسليط الضوء على أخطاء الكتَّاب؛ لعدم تنفير الناس عن إنتاجهم، بل يرى ستر هفواتهم وتجميل أخطائهم، وغض الطرف عن زلاتهم، ولو كانت تتعلق بأصول الدين وأركانه، ولو تورط الكاتب شركا محضا أودعا إليه، أو ألحد وزيَّن إلحاده لقرائه، أو جمع بين الإيمان والشرك، وبين السنة والبدعة، ولو سبَّ الصحابة وشتم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند هذا المفكر قاعدة ملخصها: " خذ اللبَّ واستر الزَّلل" اجن الثِّمار وارم الأشواك" خذ الإيمان واعرض عن الكفر"، فيا ترى هل هذا المفكر ناصح لقرائه أم خادعهم؟ أهو رائد خير أم رائد شر؟ هل كل قرائه يحسنون الغوص في أعماق البحار ليستخرجوا منها الدرر الكامنة فيها؟ وهل لدى جميع متابعيه مضادات حيوية ضدَّ الفيروسات التي يُعرض عليهم جرعة إثر جرعة؟ أ كل القراء يستطيعون مقاومة الشبهات والشكوك التي تثيرها صيارفة الكتب، وعباقرة غزو العقول، والكتاب المحترفون؟ فلا يكتبون أصلا ولا يؤلفون إلا لتأثير الناس، ولترويج أفكارهم واعتقادهم، وإبداء ما في وطابهم من الأفكار، وما يدور في خلجاتهم من التصورات، فمن دلَّ الناس على كتبهم بغرور، وانتخب ما فيها من الأماكن الجذابة، ثم عرضها على القراء على ثوب المدح والثاء، وأخفى ما فيها من الهنات والتعديات فهو مشارك بما ترتب عليها من شر وفساد، وضلال وزيغ، لأن الدال على الخير أو الشر كفاعله، وشأنه كشأن من يعدد إيجابيات الخمر ليسوِّقها ويهمل ما فيها من الشر والغواية، ويوحي لقرائه بأن فيها منافع متعددة للناس، ويؤجل أو يموه ما فيها من إثم راجح، وشرٍ واضح. ومثله مثل مَن يروج الربا ويذكر ما فيها من المصالح، وأنها أخت البيع والتجارة.
فالخير بين الشرين لا يعتبر خيرا، والعسل في وسط سم مدفف لا يستحق الإشادة به، والمكان الطاهر بين نجاستين لا يؤمن بنجاسته.
هناك حكمة صومالية تقول: سئل الخُصْيَتان لماذا وجب غسلكما وأنتما لا تبولان ولا تغوطان؟ فأجابا: "الواقع بين المنجسين لا يؤمن بنجاسته"؛ لأنهما وقعا بين المبال والمغاط، فتأثرا بهما بالمجاورة. فالمفكر المذبذب لا يُكِّون فكرةً ناضجة، ولا يثير حماسة. والكاتب الذي يقدم رجلا ويؤخر الأخرى فلا يُفهم فكرة ولا يبلور موقفا. والمؤلف غير الحازم لا يعبر عن أحاسيسه الحقيقية، ومشاعره الصادقة، وانفعالاته النفسية، بل يمارس شيئا من نفاق الكتابة، ومجاملة القراء، وارضاء جهة ما؛ فَيلِد فكرةً ميّتة لا جدوى فيها، ويُسقط معان لا حركة فيها، ويقيد ألفاظا باردة لا روح فيها،
الدكتور: يوسف أحمد
يتبوري 17-1-2021م
المفكرون بين غش ونصح!!
يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع