مدونة يوسف أحمد محمد


عباقرة الخير وعباقرة الشر (1)

د.يوسف أحمد محمد | Yusuf Ahmed


18/03/2021 القراءات: 571  


‏ وصف شخص ما بكونه عبقريا صار بضاعة لها رواجها في سوق الكتاب، وتأليفات الأدباء، ‏وصيارفة اليراع، وكَتبة التاريخ، ولكن يا ترى مَن هو العبقري حقيقة؟ وما هي مواصفاته التي أهَّلته ‏هذا الوصف وميزته عن سائر الناس؟ وما هي مجالاتها؟ ومن أول من استخدم؟ أهي إرث عن ‏الوالدين أم مرتجلة مكتسبة؟ أم بهما جميعا؟
في هذه السطور سأحاول أن أجيب عن هذه التساؤلات، موجزةً، ملخصةً بإذن الله تعالى:‏
وعند العودة إلى كتب المعاجم، والمفردات، والقواميس اللغوية: نجد أنها متفقة على أنَّ العبقريَّ: هو ‏شخص: فائق الذَّكاء، ونادرة زمانه، والمشتهر بقدرته الفائقة على الإبداع والابتكار. ولقد يسمى ‏بالنابغة.‏
وَقَالَ الْخَلِيلُ:" كُلُّ جَلِيلٍ، نَافِسٍ، فَاضِلٍ، وَفَاخِرٍ: مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِمْ ـ عِنْدَ الْعَرَبِ ـ ‏عَبْقَرِيٌّ."‏
انظر كيف اشترط أن يكون العبقري جليلا فاضلا.‏
وجدنا أن الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى هو وأول من استعمل هذا الوصف حيث قال: ‏
بَخِيلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ ** جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا فَيَسْتَعْلُوا
فوصف الفرسان بأنها كجنة فائقة الغرابة والشجاعة، كما نقول نحن ـ الصوماليين ـ إذا تعجبنا بقدرة ‏شيء: "هو جِني بن جني" ‏
ثم استعمل القرآن الكريم في وصف زرابي الجنة وبسطها بأنها "عَبَاقِرَ حِسَانٍ "؛ لأنها فائقة الوشي، ‏جليلة القدر. ‏
ووصف النبي ﷺ عمر بن الخطاب بأنه عبقري لقوله ﷺ:"فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ"؛ ‏وذلك لقوة فطنته، وحدّة ذكائه، وصفاته الحميدة، وتفوقه بإدارة الدولة، وأداء الأمانة.‏
ثم انتشر مدح الرجال، والأماكن، والأشياء بهذا الوصف قال الشاعر ‏
ذُو الرُّمَّةِ‎:
حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ الْقُفِّ أَلْبَسَهَا ** مِنْ وَشْيِ عَبْقَر تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ
ولكن من الصعوبة أن نحدد من هو العبقري؛ ولذلك أن هذا الوصف يخضع لاختلاف الأذواق، ‏والميول، والاعتقاد، والرأي الشخصي، وربما شخص ما، أو كاتب ما يضفي العبقرية على بعض ‏الناس وهم بعيدون عنها كل البعد؛ لحاجة في نفس يعقوب، وربما يَحرُم عنها الآخرين وهم جديرون ‏بها.‏
والوصف بالعبقرية من حيث هو وصف صحيح لا غبار عليه، ولكنَّ السؤال من ‏يستحقه؟ وما هو المعيار والميزان الحقيقي لوسم شخص ما بأنه عبقري فعلا لا ادعاء، ‏وليس هناك تعريف جامع مانع للعبقرية لدى الباحثين، ولا يمكن تمييز العبقري من السفيه ‏وغير العبقري، إلا بميزان الشرع؛ لأن خالق البشر هو الذي يعلمهم؛ وإلا وصف شخص ‏ما بأنه عبقري بدون الضوابط الشرعية دونه خرط قتاد، وطريق مسدود عصي.‏

ولذلك صار وصف الناس بأنهم عباقرة أمرا مطروقا مبتذلا، لا زمام له، ولا معيار، فكل ‏شخص يصف مَن ينبهر لإنتاجه بأنه عبقري ماهر، ولو أنتج ما يعتبره الجانب الآخر بأنه ‏عمل سفهي لا يستحق أن يوصف بالعبقرية وما يدانيها.‏

صنف المؤرخ الصومالي القدير الدكتور " محمد حسين" كتاب عباقرة القرن الإفريقي" وذكر ‏ثلة من العلماء وصفهم بالعبقرية، وأغلبهم لا يوجد لهم كتاب واحد مطبوع مرموق، ولا ‏يُعرف من ناحية اكتسابهم العبقرية والتميز، ولم يعرِّف المؤلف العبقرية، ولم يذكر الأوصاف ‏والإنجازات التي اعتمدها كمعيار للعبقرية؛ لأنه من الصعوبة حسم هذا الأمر. ‏

‏ وكثير من الغربيين عندما يوصفون شخصا ما بأنه عبقري فعندهم ميزانهم الخاص المبني ‏على خلفية فكرية، وعلى موروث عقدي وحضاري؛ ولذلك لا تجد في مؤلفاتهم بدءً مِن ‏‏"تشارلز جالتون" في كتابه "العبقرية المتوارثة" إلى "أندرو روبنسون" ذكرا لاسم واحد من ‏العباقرة الحقيقيين الذين مروا على وجه الأرض وأثروا فيها آثارا شاهدة على عبقرياتهم، ‏ومنهم أنبياء، وصالحون، وقادة، وإداريون، وخلفاء وغيرهم؛ والسبب واضح لأنهم لا ‏ينتمون إلى مدرستهم الفكرية، ولا يخضعون لمعيارهم الحاجر لوصف شخص ما بأنه ‏عبقري، ومن لا ينتمي إلى مدرستهم الفكرية لا حظ له بالعبقرية المطلقة. ‏

‏ والحقيقة أن العبقرية المطلقة لا تعرف زمانا، ولا مكانا، ولا جنسا، ولا لونا، بل تخترق ‏حجب الأزمنة، والأمكنة، والأمم، والأعراق، وإن حاول الخرافي " فرنسيس غولتون ‏البريطاني" أن ينشر هلوسته بأن العبقرية: ما هي إلا صفات متوارثة، وأنها محصورة في أسر ‏أصيلة عريقة، وأنها ليست مكتسبة، فسوَّد في كتابه " العبقرية المتوارثة" هذه الخرافة التي لا ‏تصمد أما الواقع. والصحيح أن العبقرية المطلقة هي قدرات عقلية، وعقدية، أو إبداعية ‏يمنّ الله على من يشاء من عباده، سواء كانت هذه القدرات فطرية، أو مكتسبة، أو كلاهما ‏معا.‏

والجهات التي تأتي منها العبقرية متنوعة، وكثيرة، وتشمل العقيدة، والفقه أو القانون، ‏والفنون بأنواعها مختلفة، والمادة بجميع تخصصاتها، والعلوم العسكرية، والسياسة، والإدارة، ‏والقيادة، وغيرها..‏

وليس بالشرط أن يكون الإنسان عبقريا في جميع المجالات؛ ولكن الله يفتح لبعض عباده ‏أبوابا من التميز والعبقرية، بينما يسدّ عنهم أبوبا آخرين، وهذا مجرب لا يحتاج إثباته إلى ‏أدلة كثيرة، ". ‏

وهذا يبطل نظرية أصحاب الماديات الذين وضعوا معيارا ومقياسا ماديا للعبقرية؛ كرقم ‏‏140 فما فوقه، كما فعل " لويس تيرمن الأمريكي". ‏
وليس الأمر كما ذكر؛ لأن عبقرية المرء ليست مرهونة لمقياس مادي؛ لكنّها تتأثر بالأفكار ‏والعقائد الدافعة لها كثيرا، ونبوغ الإنسان وعبقرياته تتأثر بالبيئة، والتراث، والفرص، والخبرة ‏تطورا وتأخرا، تعليا وتسفلا، انقداحا واخباتا. ‏

الدكتور: يوسف أحمد محمد.‏
السويد 2021-03-02م.‏


عباقرة الخير وعباقرة الشر (1)


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع