مدونة د. محمد إمام أحمد مغربي


العُلومِ الدّينيَّةُ في عَصْرِ المَماليكِ ( الجزء الأول )

د. محمد إمام أحمد مغربي | Dr. Mohammed Emam Ahmed Maghreby


08/06/2020 القراءات: 1850   الملف المرفق


العُلومِ الدّينيَّةُ في عَصْرِ المَماليكِ ( الجزء الأول )
‏(‏ 648ه -923هـ / ‏1250م- 1517م‏)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
كان عصر المماليك وخصوصاً القرن الثامن الهجري، من أزهى العصور علمياً وثقافياً بعد القرن الثالث الهجري؛ ذلك أنّ هذا العصر قد امتاز بكَثرَة العلماء الذين أنتجتهم الأمّة في ذلك الوقت، تاركين للأجيال القادمة تراثًا ضخماً في شتى فنون المعرفة.
نقصد بهذا العصر الفترة التي حكم فيها سلاطين المماليك في مصر وبلاد الشام ، منذ انقضاء عهد الأيوبيين عام 648هـ إلى أن فتحها الأتراك العثمانيون عام 923هـ‏.‏ ، ولا نقصد هنا استيعابا تاريخيا للعصر المذكور وتفصيلاً وافياً لحوادثه العامة، فإن ذلك مما يضيق به هنا‏.‏

ولقد ازدهرت الحياة العلمية والدينية بشكل كبير في العصر المملوكي بسبب ظهور عدد كبير من العلماء والمفكرين البارزين في مختلف العلوم والآداب وميادين المعرفة الأخرى. كما أن تطور الترجمة في اللغات الأجنبية والى العربية ساعدت كثيراً على ازدهار الحياة العلمية والدينية ، ويجب ألاننسى التوسع في التعليم العام وبناء المدارس والمراكز الدينية مثل دور العلم والربط فضلاً عن المساجد والمدارس والكتاتيب .

وزخر العصر المملوكي بعدد كبير من مشاهير العلماء الذين أثروا الحركة العلمية والدينية نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والمزي، وابن حجر العسقلاني، والذهبي، وابن جماعة، وابن كثير، والمقريزي، وابن تغري بردي، والقلقشندي، وابن قدامة المقدسي، والمزي الفلكي [ محمود شاكر،موسوعة التاريخ الإسلامي ( العهد المملوكي)،ج7،ص17،15 ].

كما أن مصر على وجه الخصوص أصبحت محوراً لنشاط علمي كبير وذلك لعدة أسباب منها: ما أصاب المسلمين في القرن السابع الهجري من كوارث على أيدي المغول في العراق والشام، وعلى أيدي المسيحيين في الأندلس، فكان من حظ مصر التي ظلت بمنجاة منمثل تلك المصائب أن تغدو هي المجال الوحيد للنشاط الفكري والثقافي والفني، كما أن إحياء الخلافة العباسية في مصر على أيدي المماليك هيأ القاهرة لأن ترث بغداد وتصبح مركزًا للنشاط العلمي والديني في العالم الإسلامي [سعيد عبد الفتاح عاشور ، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ،ص157 ] .


وقد شهدت مصر في العصر المملوكي نهضة علمية شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها ، فغدت القاهرة مهبط العلماء والأدباء، وخلفت القاهرة مدينة بغداد في ميدان العلوم والمعرفة والفنون. وأصبحت القاهرة مصدر إشعاع فكري يجذب العلماء والمتعلمين من كل مكان ، وكان من نتيجة هذا كله انّ أصبحت مصر في العصر المملوكي مركزاً فكرياً يجذب أنظار العلماء فقدموا إليها وأسهموا بجهودهم في إثراء الحياة العلمية التي كانت تزهز بها مصر آنذاك .

لقد ترك علماء عصر المماليك علماً وفيرًا، فقد أحصي أكثر من مائتي عالم في شتى المجالات ومئات المؤلفات والمراجع المهمة، ومنهم من ترك أثراً لا في معاصريهم فحسب بل تعداهم إلى الأجيال التي تلت، وفي هذا المجال يبدو اسم ابن تيمية في طليعة المصلحين في ذلك العصر، وذلك بسبب نشاطه ودقة تفكيره وصفاء أسلوبه ( بالنسبة إلى الفقهاء وأهل الشرع ) وصراحته.

وفي هذا يقول ابن خلدون في كتابه ( تاريخه) : " ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع " .

ويقول أيضاً : " وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن، لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة، من بلاد مصر، لما أن عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السنين، فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت، ومن جملتها تعليم العلم. وأكد ذلك فيها وحفظه ما وقع لهذه العصور بها، منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا " [ ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ] .

وقد تميز هذا العصر بكثرة المدارس التي أنشأها السلاطين ابتداءً من عهد السلطان بيبرس فصاعدًا مدفوعين إلى ذلك بعدة عوامل منها التقوى والزلفى واستخدامها في محاربة المذهب الشيعي، ومنها اتخاذ المدرسة أداة تضمن بقاء الحكم في أيديهم ودعم مركزهم في أعين الشعب [ سعيد عبد الفتاح عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك ،ص159 ].

إنّ رغبة المماليك في التقرب إلى الشعب كانت من الأسباب التي أدت إلى ازدهار الحياة الدينية في تلك الفترة . فأوجدت الجوامع والمساجد والكتاتيب لأهل الدين وأحبائه، والمدارس لطالبي العلم والتعليم، والأربطة والزوايا للفقراء والمحتاجين، والخانقاوات للصوفية المتعبدين. ونتيجة لهذا الإقبال الشديد على بناء المراكز الدينية، زادت أوقاف العصر زيادة كبيرة استلزمها الإنفاق عليها لكي تتمكن هذه المراكز من القيام بوظائفها كاملة وبصفة مستمرة. وقد اشترك في تدعيم هذه الرابطة الدينية مع الشعب السلاطين والأمراء وزوجات السلاطين على حد سواء حسب قدراتهم المالية.

ولعل من أشهر الجوامع والمساجد التي شيدت في عصر المماليك جامع السلطان الناصر محمد بن قلاون الذي أنشأ عام 711 هـ / 1311 م .


العُلومِ الدّينيَّةُ في عَصْرِ المَماليكِ ( الجزء الأول )


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع