مدونة بكاري مختار


تاريخ العصر المملوكي، قيام دولة المماليك البحرية - الجزء الثالث -

د/ بكاري مختار | Dr. BEKKARI mokhtar


18/04/2022 القراءات: 628  


غير أنه يلاحظ أن هؤلاء العرب کانوا يتمتعون بمركز اجتماعی اعلى مرتبة من الفلاحين بسبب المساعدات الحربية التي كانوا يؤدونها للدولة في وقت الحرب ولا سيما إبان الحروب الصليبية ...
وكان مشايخ العرب تقع عليهم تبعة حفظ النظام في القرى والارياف ، كذلك كانت مساهمتهم في الانتاج الزراعي ودفع الخراج كبيرة نسبيا؛ وكان تعسف امراء المماليك في تحديد أثمان المنتجات الزراعية واحتكارها والتلاعب في أسعارها أحيانا ، من الأسباب التي دفعت بهؤلاء المزارعين العرب الى القيام بثورات متعددة طوال العصر المملوکی } .
والواضح أن أسباب الثورة تعود إلى دافعين رئيسيين:
دافع سياسي و آخر إقتصادي ؛ ويلاحظ أن ثورة العرب هدفت إلى القضاء على حكم المماليك وإعادة مصر إلى حظيرة الحكم العربي الحر .
أما من حيث الدافع الاقتصادي، فإن المماليك تعسفوا في تحديد أثمان المنتجات الزراعية، وتلاعبوا بأسعارها، مما انعكس سلبا على أوضاع المزارعين الإقتصادية، وقد أدى ذلك إلى هجرة عدد كبير منهم إلى المدن الكبرى حيث اشتركوا في النزاعات الداخلية التي كانت تدور بين الأمراء المماليك - كما بالغ المماليك في الإستهتار و زيادة الضرائب .(*16)
ويبدو أن الحركة الثورية لم تقتصر على المزارعين العرب وحدهم، بل انتشرت بين العامة الذين التفوا حول الشريف حصن الدين ، ورفض المصريون أن يحكمهم سلطان جرى عليه رق، فكانوا يهاجمون أيبك ويوجهون إليه النقد ويسمعونه ما يكره ، من ذلك قولهم : «لا نريد إلا سلطانا رئيسا مولودا على الفطرة »(*17).
وأقام "الشريف حصن الدين" دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى وفي منطقة الشرقية بالوجه البحري قاعدتها «ذروة سريام» أو «ذروة الشريف» نسبة إليه .(*18)
وحتى يقوي سلطة دولته الناشئة، اتصل الشريف بالملك الناصر يوسف ، صاحب الشام، وطلب مساعدته في محاربة المماليك(*19).
لكن الملك الأيوبي الذي كان يجري، آنذاك ، مفاوضات مع أيبك بشأن عقد صلح بينهما، لم يكن بوسعه أن يقدم أية مساعدة .
أثارت هذه الحركة الثورية مخاوف المماليك، فخشوا على مستقبل دولتهم الوليدة مما دفعهم إلى اتباع سياسة العنف والقوة في قمعها ، فأرسل أيبك حملة عسكرية بقيادة أقطاي للقضاء على هذه الثورة، وتمكن من التغلب على المقاومة العربية في بلبيس ، وظل حصن الدين طليقا يحكم مصر الوسطى حتى قبض عليه الظاهر بيبرس عندما تولى الحكم وشنقه (*20) .
كان أيبك قد استعان بالمماليك البحرية في التغلب على ثورة العرب التي واجهته ، فازداد نفوذهم وارتفعت مكانة زعيمهم فارس الدين أقطاي. وكان أيبك يتوجس خيفة من تصاعد نفوذ أقطاي وطائفته البحرية عقب الإنتصارات التي حققتها هذه الطائفة على الصليبيين، والناصر يوسف .
وجاء انتصار أقطاي على العرب ليزيد من مكانته، حتى أضحى وقوع الصدام بينهما حتميا ، وليس مستبعدا أن يكون تكليف هذا الأخير بإخضاع الثورة المشار إليها وسيلة للتخلص منه .
والواقع أن أقطاي عمد بعد انتصاره على العرب إلى إقطاع ثغر الإسكندرية لنفسه، ولم يتمكن أيبك من معارضته، في الوقت الذي اشتط فيه المماليك البحرية في طلب الإقطاعات و المنح ، وراحوا يحيكون المؤامرات لخلع أيبك .
وقد ذكرنا، أن المماليك وافقوا على سلطنة أيبك لاعتقادهم بأنه شخصية ضعيفة، وأنه من الممكن إسقاطه عن الحكم بسهولة، لكن التطورات السياسية أثبتت غير ذلك. فبعد تركزه في الحكم، أخذ يعمل على تقوية مركزه، وتحرك على ثلاثة محاور :
1▪︎ فقد أنشأ لنفسه فرقة من المماليك عرفوا بالمعزية نسبة إلى لقبه الملك المعز.
2▪︎ إنه عین مملوکه قطز نائبا للسلطنة .
3▪︎أنه أخرج المماليك البحرية من ثكناتهم في جزيرة الروضة، وكان قد عزل شريكه الصغير في الحكم الطفل الأشرف موسی وانفرد بالسلطنة، فبدا في صورة السلطان القوي
ويبدو أن هذه الإنتصارات التي حققها، وتلك الإجراءات الشكلية التي أحاط نفسه بها، لم تحمه من خطر أقطاي، ولم تحد من نفوذه وطموحه، حتى أفاق أيبك أخيرا ليجد نفسه أمام منافس قوي بلغ درجة عالية من السطوة والنفوذ فاقت
سطوة الملك ونفوذه، محاطا بالفرسان المسلحين، وقد اعتدوا بأنفسهم وبقوتهم (21)
وذهب أقطاي بعيدأ حين راح يهاجم أيبك، ويبالغ في تحقيره في مجلسه ولا يسميه إلا أيبكة»، وينتحل لنفسه في مواكبه ومجالسه بعض الشعارات السلطانية، ثم تطلع نحو السلطنة، وسانده أتباعه البحرية لتحقيق أمنيته، فلقبوه بالملك الجواد (*22).
وازداد أقطاي عتوا حين خطب لنفسه إحدى أميرات البيت الأيوبي، وهي ابنة المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة ، فأضحى له سند شرعي في الحكم، ثم طلب من المعز ايبك أن يسكن قلعة الجبل، باعتبار زوجته من بنات الملوك .
عندئذ أدرك أيبك ما يجول في فكر أقطاي، لأن قلعة الجبل كانت في ذلك الوقت المقر الرسمي للحكم وكان معنی طلبه ذلك أنه تطلع نحو السلطنة (*23)
فلم يبق لدى أيبك ، بعد ذلك، أدنى شك في نواياه السلطوية وأضحى التخلص منه ضرورة ملحة، وصمم على قتله. فاستدرجه صباح يوم الاثنين في (۱۱ من شهر شعبان عام ٦٥٢ ه/ ۲۷ من شهر أيلول عام ۱۲٥٤ م) إلى القلعة بحجة استشارته في أمر مهم ... وكان قد اتفق مع مماليكه المعزية على اغتياله .
وفعلا حضر أقطاي إلى قلعة الجبل مع بعض ممالیکه، فما كاد يدخل باب القلعة المؤدي إلى القاعة الكبرى حتى أغلق خلفه، ومنع ممالیکه من الدخول، ثم هاجمه المماليك المعزية، ومنهم الأمير قطز ، وانقضوا عليه وقتلوه بسيوفهم .(*24)
وسرعان ما أشيع خبر مقتل أقطاي في القاهرة، فهرع سبعمائة من ممالیکه لإنقاذه ظنا منهم أنه لم يقتل بعد وأنه ما يزال حيا، وكان من بينهم الأمراء، بيبرس البندقداري وقلاوون الألفي وسنقر الأشقر ، وعسكروا تحت أسوار القلعة.
لكن أيبك ألقى إليهم برأس زعيمهم، فأدركوا عندئذ أنهم أمام رجل قوي وأنه لا مقام لهم في مصر خشية أن يبطش بهم فهرب منهم من استطاع الفرار إلى بلاد الشام، ليحتموا بظل الملوك الأيوبيين مثل الناصر یوسف صاحب حلب ودمشق، والمغيث ملك الكرك، كما التجأ مائة وثلاثون منهم إلى سلطنة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى ..(*25)


دولة المماليك، مصر


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع