مدونة د. نايف بن ناصر المنصور


مقال بعنوان سنوات في الوظيفة

الدكتور نايف بن ناصر المنصور | Naif naseer almansoor


30/07/2020 القراءات: 5303  


منذ أن يبلغ الإنسان مرحلةَ التمييز ويدخل المدرسة، من هنا تبدأ مرحلة تبين أهميَّته في الحياة؛ بحيث أصبح عنصرًا فعَّالًا فيها، ومن ثم تمرُّ به السنون على مراحل التعليم وفصول الدِّراسة وكمٍّ هائل من الطلاب والزملاء، فيكتسب في خلال هذه المخالطة المعرفةَ والسلوك السَّلبي منها والإيجابي بطبيعته الإنسانيَّة، وهي التأثُّر بمن حوله.



فمن مرحلة تعلُّم القراءة والكتابة ومعرفة المسائل الحسابيَّة والعلوم الاجتماعية والأدب، حتى يتخطَّاها إلى مرحلة التخصُّص في الدِّراسة الجامعيَّة؛ هذه المرحلة التي تُعتبر فاصلة في حياة الإنسان، إمَّا أن يؤهِّل نفسه للعمل الذي يَهواه ويرغبه، وإمَّا أن يعدل عنه إلى عمَلٍ يكون وسيلةً ومصدرَ رزق له في هذه الحياة الصعبة!



ومن وسائل تأهيل الإنسان نفسه للعمَل المرغوب فيه والذي تهواه نفسُه: الحصول على التعليم المناسِب والمعدَّل المطلوب من الدَّرجات، والذي يحتاج إلى استعدادٍ وملازمة المواد والانتباه في الفصول الدراسيَّة، بالإضافة إلى الانضباطية.



وبعد التخرُّج من الدراسة ومفارقة أروقة الجامعات ووصاية الدكاترة، يبدأ البحث عن فرصَة العمر ومستقبل الحياة، وهذه أمور مستقبليَّة لا يعلمها إلا الله سبحانه، فمن الناس مَن يحصل على الوظيفة في رَقم قياسي، ومنهم من يَطول بحثه وينفد صبرُه في السؤال عنها بكلِّ وسيلة وطريقة، ومع بداية أول يوم في مباشرة العمَل الذي حصل عليه يبدأ يومه في مقابلة المدير أيًّا كان مستواه، فيبادره بالترحيب، وبعدها يبدأ بتعليمه أمور وطبيعة العمل، والتعريف به على الزُّملاء في الإدارة، وإرشاده إلى مكتبه.



ثم يبدأ هذا الموظَّف اليوم الثاني بالحضور مبكرًا في وقت الدَّوام المناسب وهو يَمشي في الإدارة وسط أنظار الموظَّفين الأقدم منه في ترقُّبٍ وحذَر وتفحُّص لسلوكه وطبيعته، فهناك من الزُّملاء من يَكره كلَّ موظف جديد في الإدارة، ويخيل إليه أنَّه سيقاسِمه في رِزقه ويناصفه راتبه! وهناك من يتقرَّب إليه ويتملَّق له ويكسبه في صفِّه وحزبِه، سواء معارضًا للإدارة أو مجاملًا مطيعًا لها في كلِّ الأحوال، خطأً أو صوابًا! وهناك صنف ثالث هو الصنف الناصِح، الذي يحاول تعليمَ الموظَّف الجديد طريقةَ عمله الموكل إليه بإخلاص، ويرحِّب به في كلِّ الأحوال، ويوثق العلاقةَ بينه وبين الموظَّف الجديد، ويكون صديقًا له.



وتمر السنون، ويكسب هذا الموظَّف الخبرةَ، ويترقَّى في وظيفته، ويصبح له منافِسون في الإدارة الذين يَخشون أن يكون مسؤولًا عليهم، ويخشون أن يكسب السمعةَ عنهم؛ فمنهم من يقلِّل من مَواهبه وخبراته أمام الإدارة، ومنهم من يَكيد له المؤامرات، ومنهم من يوصل أخبارًا غير طيِّبة عنه للمدير، متناسين قولَ الباري تعالى في أنَّ الرزق من الله وتفاوت الناس في ذلك: ﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [النحل: 71]، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا تحسَّسوا ولا تجسَّسوا، ولا تَنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا))، الذي ينهى عن حسَد الإنسان أخاه فيما حصل له من خير، فيدخل من خلال هذه الأمور في معمعات ومشاكل، والإنسان الذَّكي الذي يستطيع التغلُّب عليها في وقت قياسي دون أن يتضرَّر أحد منها.



وبعد مضي الأعوام في الوظيفة ربَّما ينتقل الموظَّف إلى جهة أخرى أو يتولَّى منصبًا جديدًا، فيحتاج إلى تَغيير سلوكه وأسلوب تَعامله مع الآخرين، الأمر الذي يتطلَّبه الوضع الجديد، وربما هذا التغيُّر يؤثِّر على علاقة الموظف بمَن حوله سلبًا أو إيجابًا، فيمكن أن يظهر سعيدًا بالتغيُّر ومرِحًا محبًّا للتطوير والتعاون، أو يكون قلِقًا متوترًا من المسؤولية الجديدة، متكبِّرًا عن سماع آراء الآخرين في حلِّ مشاكل العمل... وهكذا هي طبيعة البشر، والثَّبات ودوام الحال من المحال.



حتى يصِل الموظَّف إلى سنَة التقاعد، ويعلم أنها آخر سنَة له، فيبدأ القصور في العَطاء والبذل، حتى يكون وجوده في العمل غير نافِع، فلا يكلَّف بتأدية أية مهمَّة؛ بسبب التعاطف معه لكبر سنِّه، أو ضعف تدبيره، أو لسببِ وصوله نهاية حياته العملية.



أمَّا يوم الوداع!

فهو إمَّا أن يكون حافلًا بالتوديع الجميل من بقيَّة الزملاء، وإقامة حَفْل وداع له، وشكره على جهوده في الوظيفة وسط سَعادة تَغمره، وإمَّا أن يكون الوداع صامتًا بخِطاب شكرٍ من الإدارة مع جَهل أغلب الزُّملاء بتقاعده، وبداخله حسرات وزفرات وحزن عميق على ما مضى من سِني العمل التي قضاها، ومعاركه التي حارَب فيها وندم على الكثير منها، وأحسَّ في النِّهاية بالوحدة المميتة، وقلَّة الأصدقاء، ولِسان حاله قول الشاعر:

ما لي أنيسٌ غير بيت قالهُ
صَبٌّ رمَته من الفراق سِهامُ
واللهِ ما اخترت الفراقَ وإنما
حكمت عليَّ بذلك الأيامُ



الوظيفة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع