مدونة د. نايف بن ناصر المنصور


حواجز زجاجية

الدكتور نايف بن ناصر المنصور | Naif naseer almansoor


17/03/2021 القراءات: 1652  


 يَسكن هذه المعمورةَ فوق سطح الأرض أكثرُ مِن ستّة مليارات نسمة، متفرِّقين في أقطارها مِن مختلف الأجناس، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وكل قطْر له انطباعات وله عادات، وهناك العديد من الديانات المختلفة، منهم مَن يَعبد الحيوان، ومنهم مَن يعبد النار والأحجار، ومنهم مَن يَسجد للشمس - الحمد لله على نعمة الإسلام وتوحيد رب البرية - ومِن طبيعة البشرية على مَرِّ السنين حبُّ التواصل والتقارب فيما بينهم، والتعرُّف على بعضهم؛ قال - تعالى - في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13]. في مجتمعنا قديمًا كانت تَسكُن العوائل الكبيرة ذات الأعداد الكثيرة في مسكن واحد، أو مِن خلال بيوت ومبانٍ متلاصقة، تأكل معًا، وتعمل معًا في حالة معيشية مُتقارِبة، وفي مستوى متقارب، لا يُفكِّرون تلكم الأيام إلا فيما يَسدُّ جوعهم غير متطلعين إلى أكثر من ذلك، مُتآلفين فيما بينهم، يَندر حصول الخلاف، وسرعان ما يزول إذا وُجد! والمحبَّة فيهم تزيد، والشوق بينهم مستمر؛ لذلك ترى الحزن وسيَلان الدموع أثناء الفراق ولو الأيام قليلة! أما الآن بعد التطور الحاصل، والرفاهية الزائدة، ودخول وسائل التقنية، واتِّساع رقعة البُنيان، والمنافسة في زيادة حجم المساكن، وزيادة عدد المركوب، فتجد قصرًا ضخمًا لا يَسكنه إلا أربعة أشخاص، وهو يتَّسع للمئات! وإن هؤلاء السكان بداخله لا تجد لهم سوى القليل مِن التواصُل بينهم وعلى فترات مُتباعدة، وهناك غموض وخصوصية لكل واحد منهم، فلا يتقابلون مثلاً إلا أوقات الوجبات، أو بعض أيام الأسبوع، وكلما اتَّسعت الدائرة الاجتماعية زاد التفرُّق بين الناس، فالأقارب أصبح تواصُلُهم في المناسبات الكبيرة والأعياد، والمجتمعات أصبح التنافر موجودًا، والتنافس غير المحمود كثيرًا، فالإنسان لم يعد يهتم إلا بنفسه ويَحتجُّ بالحرية والخصوصية، وأصبح أنانيًّا يؤْثِر نفسه ويترك غيره، وكثرت العداوات والشحناء، ونسي أن مِن الواجبات على المسلمين الاتحادَ والترابط بينهم، وأن يكون ذلك مِن طِباعهم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71]، قال الشوكاني - رحمه الله - عند هذه الآية: أي قلوبهم متَّحدة في التوادُد والتحابُب والتعاطف؛ بسبب ما جمعهم مِن أمر الدِّين، وضمَّهم من الإيمان بالله، فنسبتهم بطريق القرابة الدينيَّة المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك. وما جاء في السنَّة أيضًا مما يدلُّ على ذلك؛ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم-: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا - ثمَّ شبَّك بين أصابعه))؛ متَّفق عليه، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))؛ رواه مسلم، وغيرها الكثير مِن الأدلة من الكتاب والسنة التي تُعنى بهذا الأمر. فعندما نَنظُر إلى الدنيا، وإلى حالنا وحال الإخوان والأقارب والمجتمعات، نشاهد بعضنا البعض، ونتعامل مع بعضنا البعض، ولكن بدون مشاعر، صار بيننا حواجز زجاجية؛ نرى فيها الصور والأجسام، ولا نُحس بما فيها مِن مشاعر أو نسمع صوتَ مَن وراءها؛ بسبب تفشِّي الأنانية، وحب الذات، ترى الواحد منا يقوم بأعمال، ويَستثمِر أموالاً، ويُكوِّن علاقات، ويتغيَّر مقرُّ عمله ومقر سكنه، دون أن تَعرِف عنه أي شيء، ودون أن يُخبِرك أو يَستشيرك بأمر ما، ولا يريد منك أن تسأله عن أي خبر! ما هذا الأمر؟ وحتى متى سنظلُّ كالجمادات، وتصير أخلاقنا وطباعنا مادية؟ فلا ينسَ الإنسان أنه لا يَستغني عن الآخَر، وخاصة ممن تربطه به علاقه مِن نسب أو دين، فلنُراجع أنفسَنا، ونُصحِّح أخطاءنا، ونُصلح أحوالنا في أنفسنا وفيما بَينَنا. أسأل الله - تعالى - أن يَجمع شمل المسلمين، ويُوفِّقهم إلى ما يحب ويرضى.


حواجز


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع