مدونة يوسف الحزيمري


حقيق أن تكتب بماء الذهب 3/1

يوسف الحزيمري | Youssef El hzimri


11/12/2021 القراءات: 1414  


عند المطالعة لكتب التراث في مختلف العلوم، تطالعنا عبارات من مثل: (حقيق أن تكتب بماء العين)، أو (بماء الذهب)، أو (حقيق بأن يرحل إليها)، ومقصودهم الدلالة والتعبير عن نفاسة المشمول بالكتابة، سواء كان حديثا، أو عبارة =(حكمة)، أو شعرا، أو كتابا، وغالبا ما يكون المقصود مشتملا على فوائد، وفرائد، وتدقيقات، ونكت علمية = (والنكتة: هي مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، من نكت رمحه بأرض: إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثر الخواطر في استنباطها)[1].
والكتابة بالذهب تعبير عن القيمة والمكانة ونفاسة المكتوب، وتأثيره في القلوب، لذلك عرف العرب في الجاهلية بكتابة نفائس أشعارهم وتعليقها على الكعبة، حيث "إن العرب كانت شديدة العناية بشعرها، مبالغة في المحافظة على الجيد منه، فأمرت بكتابتها بماء الذهب على القباطي وبتعليقها على الكعبة، إعجابًا بها وإشادة بذكرها. وقد عرفت تلك القصائد بالمذهبات وبالمعلقات وبالسموط"[2]
وذكر "محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: أن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو، وطرفة"[3]، وجاء في المزهر للسيوطي أن "المعلقات تسمى المُذَهَّباتُ، وذلك أنها اختيرت من سائر الشعر، فكتبت في القُبَاطِيّ بماء الذهب، وعلِّقت على الكعبة فلذلك يقال: مُذَهَّبة فلان إذا كانت أجود شعره"[4].
فغدت الكتابة بالذهب دلالة على التعظيم والتشريف للمكتوب، ومن أعظمها كتاب الله ، إذ بلغ في بيانه وإعجازه ما فاق أجود كلام العرب في أشعارهم وحكمهم، وأعجزهم عن الإتيان بمثله، وهو مؤلف من نفس حروف ما ينطقون.
يقول الدكتور: عبد الرحمن بن سليمان المزيني "وأغلب الظن أن الزخرفة والتحلية بدأت بالقرآن الكريم حيث لم يكن يصح أن يوجد به صور أو رسوم فاستغل المزخرفون هذه الفرصة في التأنق في زخرفة المصحف بأشكال نباتية وهندسية، وكانت بدايات السور وعلامات الوقف ميداناً خصباً لعملية الزخرفة هذه، وزيادة في التقرب إلى الله كانت هذه الزخارف تكتب بماء الذهب، وقد أمعنوا في هذا الجانب بعد ذلك فكتبوا المصحف كله بماء الذهب...
وكان التذهيب في أول الأمر مقصوراً على أجزاء معينة من الصفحات مثل الأشرطة التي تفصل السطور بعضها عن بعض، والفواصل بين الآيات، وبعض العناصر الزخرفية التي تدل على أجزاء المصحف وأقسامه، وكان الشريط أهم هذه الأجزاء جميعاً وقد زين بعناصر زخرفية مختلفة...وجرى تذهيب الصفحات الأولى والأخيرة للقرآن الكريم، كما زينت وذهبت علامات نهاية الآيات، وتقسيمات القرآن الأولية على شكل (نصف وثلث وربع..إلخ) وبمرور الزمن تم تذهيب فهرس السور وفهرس عدد الآيات والكلمات والأحرف المكتوبة على صفحات مزينة"[5]
وهكذا استمر التذهيب في المصاحف إلى يوم الناس هذا، وغدت أحكامه فقهية في كتب الفقه بالجواز اعتبارا للقصد الشريف، قال في الهداية : "ولا بأس بتحلية المصحف لما فيه من تعظيمه، وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب"[6]، وجاء في الجوهرة النيرة: "قوله (ولا بأس بتحلية المصحف ونقش المسجد والزخرفة بماء الذهب) لأن المقصود بذلك التعظيم والتشريف، ويكره فعل ذلك على طريق الرياء وزينة الدنيا"[7]، وجاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق "وقد زخرفت الكعبة بماء الذهب والفضة وسترت بألوان الديباج تعظيما لها"[8]
إذن كان قصد التشريف والتعظيم هو الباعث على كتابة المصحف الشريف بماء الذهب، وكذا تزيين الكعبة المشرفة وغيرها من المساجد، وهذا الباعث انسحب على باقي كتب السنة المشرفة، وأضحى التعبير بالكتابة بالذهب مقرونا بالشرف والتعظيم، ولا أشرف من كتاب الله وسنة نبيه ، وبيته الذي جعله مثابة للناس وأمنا.
وقد روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن بحار الترمذي يقول: "كنت عند مالك بن أنس، وكان عنده محمد والمأمون يسمعان منه الحديث، فلما فرغا قال أحدهما، إما المأمون، أو محمد - الشك من محمد بن عمران - يا أبا عبد الله أما تأمرني أن أكتبه بماء الذهب؟
قال لا تكتب بماء الذهب، ولكن اعمل بما فيه"[9].
قال مالك: "دخلت على أبي جعفر بالغداة حين وقعت الشمسُ بالأرض، وقد نزل عن سريره إلى بساطه، فقال لي: حقيقٌ أنت بكل خير، وحقيقٌ بكل إكرام، فلم يزل يسألني حتى أتاه المؤذِّن بالظهر، فقال لي: أنت أعلمُ الناس، فقلت: لا واللهِ يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتمُ ذلك، فما أحدٌ أعلمَ منك اليومَ بعدَ أمير المؤمنين.
يا أبا عبد الله - كنية الإمام مالك -، ضَعْ للناس كُتُباً، وجنِّب فيها شدائدَ عبد الله بن عُمَر، ورُخَصَ ابن عباس، وشواذَّ ابن مسعود، واقصِد أوسط الأمور، وما اجتمع عليه الأمَّةُ والصحابة، ولئن بقيتُ لأكتبنَّ كتبك بماء الذهب، فأحمِلُ الناسَ عليها"[10].
قال القاضي عياض في ترتيب المدارك :"...وفي رواية كما تكتب المصاحف ثم أعلقها في الكعبة وأحمل الناس عليها"[11].
فهذه إشارة من أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، في قوله (لأكتبنَّ كتبك بماء الذهب) للإمام مالك بن أنس رحمه الله أمير المؤمنين في الحديث، بعظم قدره في العلم، والمرجع في الفتيا، بكون كتابه "الموطأ" حقيق بأن يكتب بماء الذهب.
ومثل الموطأ لمالك بن أنس، صحيح أبي عبد الله البخاري المجمع على كونه أصح كتاب بعد كتاب الله  ، ولابن عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني الأديب رحمه الله تعالى في مدحه:[12]
صحيح البخاريّ لو أنصفوه ... لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى ... هو السدّ دون العنا والعطب


كتابة - ماء الذهب


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع