مدونة عبدالحكيم الأنيس


الرفاعي ومنهجه في الإصلاح (2)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


26/06/2022 القراءات: 876  


وقال مؤرخوه: "كان إذا تنفَّس تكاد أنفاسه تحرق جلاسه".
ولنا أن نتوقف هنا لنستنبط من غير تعبٍ أَن شعلة الحب في قلب هذا السيد هي التي لفتت أنظار الناس إليه، وهي الجذوة التي كانوا يفتقدونها، وهي التي نقلتهم من تديُّن يحكمُ الرسومَ إلى تديُّن يُلهب الروح، ويُوقد النفس، ويحرِّكَ العالم.
كان السيد يقول: "أُمرت بالسكوت". وقالوا عنه: "كان يربّي بحاله أكثر مما يربي بمقاله". وقالوا: "كان يؤدّب النفس بالرياضات، ويؤدِّب القلب بالمعارف".
لقد دعت له أمُّه في صغره فقالت: "اللهم اجعل له منك أوفر الحظ والنصيب" واستُجيب الدعاء... وكان هو يقولُ في مجالسه: "أي سادة إذا حصلَ لكم اللهُ حصلَ لكم كلُّ شيء". ويقول: "العارف الحقُّ الذي لا يخلو ظاهرُه من قوانين الشرع، وباطنه من نيران المحبة" وواشوقاه إلى نيران المحبة هذه.
3. وماذا عن سلوكه؟
والجوابُ ما قاله هو لسبطه إبراهيم الأعزب: "أَي إبراهيم ما تَرَكَ جدُّك طريقًا للقوم ما سلكه إلا ما شاء الله. أَيْ إبراهيم دار هذا .... جَدُّك جميعَ الطرق فلم ير أقربَ وأوضحَ وأيسرَ وأصلحَ وأصحَّ وأرعى وأَحبَّ من طريق الذل والانكسار، والحيرة والافتقار".
4. وهل ألَّف السيد كتبًا أو قال شعرا؟
الجواب: هو أن البحث في هذا على مدى ثلاثين سنة انتهى إلى أن ذلك لم يكن، وأن أشهر بيتين نُسِبا إليه في نسبتهما إليه كلام طويل.
5. وماذا عن الطريقةِ المنسوبةِ إليه وقولِ مَنْ قال بأنه مؤسِّسُها؟
الجواب: هو أن الكتب التي تلت حياة السيد لمدة أربع مئة سنة -على الأقل- لا تعرف هذه الطريقة بالمعنى القائم الآن.
6. وماذا عن التراث الرفاعي؟
أقولُ: إنَّ كثيرًا مما يتداوله الناس وأصبح يشكل تصورهم وتصديقهم لم يتم تأكيدُ نسبته إلى مَنْ نُسب إليه إلى الآن، وهذا الحكم يشمل أكثر من (50) كتابًا في ذلك.
7. وهل ثم دراسة تتولى الكشف التام عن حقيقة السيد ومنهجه؟
الجواب: لا، وهذا متوقفٌ على نشر كثير من الكتب المخطوطة الموزعة في مكتبات العالم.
وأقول: إن النهوض بالتربية وَفْقَ منهج الرفاعي متوقفٌ على ثورة داخلية على ما توارثناه مسلَّمًا -وهو غير حقيق بالتسليم-.
والآن نمضي مسرعين إلى معالمَ عامةٍ من الإصلاح عنده، أو مفردات من معجم إصلاحه:
• كان كثير الاهتمام بالعلم الشرعي، يقول: "وددتُ أن يكون في أم عبيدة حلقة للقرآن وحلقة للفقه". ويقول: "مَن اشتغل بالعلم كان له معنا سهمان: سهم العلم وسهم الفقر ولو انقطع عن المجيء إلينا بالاشتغال فيه".
• كان كثير التحذير من الاغترار بالدنيا، يقول: أبصرْ بعين قلبك يا مسكين، وأصلح رشدك بصحة اليقين، هل كان لهذه الدنيا الغدارة صديقٌ إلا صرعته؟ أو صاحبٌ إلا فجعته؟ أو أعطتْ أحدًا إلا أخذتْ منه أضعافَ ما أعطته؟ أو أفرحت أحدًا بفرحة إلا أعقبته نوحة؟".
ولهذا كان ينهى الفقراء عن النظر إلى الأغنياء ويقول: "إن ذلك يفتِن القلب ويحجبه.."، وينهى عن مصاحبة الظلمة والنظر إليهم والمعونة لهم ويقول: "ذلك يُقسِّي القلب، ويُسخط الرب".
ومع ذلك كان إذا سأله أحدٌ أَنْ يدعو على الظلمة يقول: "اللهم أصلحهم وأرشدهم، وألهمهم طاعتك، وذكرك، ووفقهم لما تحب وترضى برحمتك يا أرحم الراحمين".
ومن أقواله: "ما وقف على باب أحد من أهل الدنيا كاملُ المعرفة".
وكيف السبيل إلى إخراج الدنيا من القلب؟ هذا واجب الشيخ المرشد المسلك.
يقول السيد: "كل من ادعى المشيخة ولم يقم الفقيرُ غنيًا من عنده، والغني فقيرًا فليس على شيء".
• كان كثيرَ النهي عن النزاعات والخصومات، ويقول: "إنْ نازعني أحدٌ تركت منازعته ومزاحمته". وقد وصفه مؤرّخوه بأنه كان لا يرى الشكوى إلى سلاطين الأرض. وضرب هو في ذلك أمثلة مدهشة فيمن نازعه وخاصمه.
وهذا ملمحٌ اجتماعي عميق المدى، ولنا أن نتخيل مجتمعًا تُسقط فيه المظالم، ويستغنى فيه عن المحاكم كيف يكون !
• كان يحذر من استغلال التصوف، يقول: "ليس من التصوف: أحبوني، ولا أكرموني، ولا زوروني".
ويقول: "ما ثبت عن فقيرٍ أخذُ مال الفقراء". وكان لا يستخدم أحدًا في حاجة نفسه. ويقول: "أنا أخترتُ الخدمة فكيف يكون للخادم خادم؟". ويقول: "لا جعلني الله ممن يستخدم الفقراء".
ويقول: "من علامة الفقير أنه إذا تكلَّم تكلَّم بالحكمة، وإذا تحرك تحرك للخدمة". ويقول: "ما استصغرتُ أحدًا إلا وجدتُّ نقصًا في ديني ومعرفتي".
• كان يدعو إلى مجتمعٍ متراحمٍ متكاتفٍ متكافلٍ، يقول: "أقربُ الطرق إلى الله التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله". ويقول: "غالبُ ما سلطَّ اللهُ به على العراقِ الأذى منعُ الزكاة، وقلةُ نظر بعضهم بالإحسان إلى بعض".
ووصّى خادمَهُ يعقوب بن كراز فقال: "وعليك بالتجاوز عن هفوات الإخوان، وستر عيوبهم، وإظهار محاسنهم".
وسُئل عن الفتوة فقال: "هي الصفح عن عثرات الإخوان، وأن لا ترى لنفسك فضلًا على غيرك".
وقال: "لا يحصلُ للعبد صفاءُ الصدر حتى لا يبقى فيه شيءٌ من الخبث لا لعدوٍ ولا لصديق، ولا لأحدٍ من خلق الله عزَّ وجلَّ، وهناك تستأنسُ الوحوشُ بك في غياضها، والطيرُ في أوكارها، ولا تنفرُ منك، ويتضحُ لك سرُّ الحاء والباء" (ويتضح لك سر الحاء والباء) هكذا قال السيد، ألم أقل لكم: إنَّ شعلة الحبَّ هي التي قادتِ الناسَ إليه.
وبعد ثالثة: فتلك لمحات ربما كانت دالةً، ودلالات ربما كانت لمّاحةً، والوقتُ يضيقُ عن الاسترسال، واللغةُ في هذا المجال أضيق.
وإن كان لي من توصيةٍ فهي الرجاءُ الأكيدُ بقيام مركز علمي متخصص يجمع تراث التصوف من مكتبات العالم، ويعكفُ على إخراجه إخراجًا علميًا أمينًا دقيقًا، ويبِّين الأخطاءَ والخطايا التي وقعتْ فيه، ووقعت له، ووقعت عنه.
وأدعو بدعوة رفاعية:
اللهم اجعلنا ممن ركَّبتَ على جوارحهم من المراقبة غلاظَ القيود.
وأقمتَ على أسرارهم من المشاهدة دقائقَ الشهود.
فهجم عليهم أنسُ الرقيب مع القيام والقعود.
فنكسوا رؤوسهم من الخجل وجباهم للسجود.
وفرشوا لفرط ذلهم على بابك نواعم الخدود.
وفتحت لسعيهم مع الإرادة أبواب السعود.
فبلّغتهم وأعطيتهم منك نهاية المراد وغاية المقصود.
وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وسلم.


الرفاعي. الإصلاح. التربية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


أكرمك الله أستاذنا الفاضل، أثرت فينا الشجون أين نحن من هذه المعاني السامية؟ أسأل الله الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه. ورحم الله الشيخ أحمد الرفاعي وأكرمه.


تنبيهات: صواب: يحركَ: يحركُ جاء: دار هذا ... جدك. والصواب: دار هذا اللاش جدك. وجاء: أخترت. والصواب: اخترت