مدونة عبدالحكيم الأنيس


الرفاعي ومنهجه في الإصلاح (1)

د. عبدالحكيم الأنيس | Dr. Abdul Hakeem Alanees


26/06/2022 القراءات: 877  


[ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر: "التصوف منهج أصيل للإصلاح" يوم الاثنين (28) من شوال سنة (1432) الموافق (26) من سبتمير عام (2011)، وقد عقد في القاهرة برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وبرعاية وزارة الأوقاف، ومشيخة الطرق الصوفية، والرابطة العالمية لخريجي الأزهر]
قبل تسع مئة واثنتين وثلاثين سنة وُلِدَ في قريةٍ في جنوب العراق طفلٌ كان من قَدَرِ الله له أنه لم يمت حتى طبَّقت شهرتُه الآفاق، كما قال المؤرخ الكبير تاج الدين ابن الساعي البغدادي: "شاع ذكره في الآفاق، وتجمّل به أهل العراق"، ذلك هو أحمد بن علي الرفاعي سيِّدُ العارفين، أو شيخ العارفين، أو سلطان العارفين، كما وصفه الإمامُ الذهبي في ثلاثةٍ من كتبه.
مِن أصلٍ مغربيٍ نشأ ليحقّق المقولةَ السائرة: طلعتْ من المشرق شمس، وطلعتْ من المغرب شموس.
ومن أم عَبيدة في جنوب العراق كان الانطلاقُ العجيبُ الذي وصل إلى سائر الأقطار.
وبعد عُمر حافلٍ بجلائل الأعمال، وأروع الخلال، وبعد أن نعمت أُمُّ عبيدة والمنطقة بأسرها بأبٍ حنون، وأخٍ شفوق، وابنٍ ناصح، وبعد أن نعم الناسُ سنين من الدهر في ظل رجلٍ أعاد صلتهم بخالقهم، وربطهم بنبيهم، وأذاقهم حلاوةَ الإيمان، وأعادهم إلى صفاء الإسلام.
بعد هذا العمر، وفي ساعات الظهيرة من يوم الخميس الواقع في شهر جمادى الآخرة من عام ثمان وسبعين وخمس مئة استأثر اللهُ بروح عبده الذي أضناه الشوقُ إلى لقاء مولاه.
وهبَّ الناسُ من كل مكانٍ يودِّعون الشيخ والأمل، والبارقة التي أنارت لهم دياجير الطريق.
وما إن أسدل الليل أستاره على العراق حتى هدأ الناس هدوء الطفل اليتيم، وكانت الدموع هي وحدها التي تتكلم، وتقول: رحمك الله يا زاهدَ العراق.
وطُويتْ صفحةٌ من أروع الصفحات في تاريخ العظماء من الرجال، صفحةٌ كان عنوانها: الطريق إلى الله.
فلقد أنار الطريقَ للمسلمين... وأبان لهم منهجًا حكيمًا من أنضج المناهج في تاريخ التربية والإصلاح.
أجلْ إنَّ المنهج الذي سار عليه كان منهجًا ربانيًا مخلصًا، لا التواء فيه ولا اعوجاج، بل صفاء خالص، وإخلاص صاف..
ولعل هذا هو السبب في انتماء الناس عَبْرَ الزمان وفي كل مكان إلى هذا الرجل.
لقد رَحَلَ إلى الله بعد أن كَشَفَ الخفاء، ونَشَرَ الضياء، وقالَ كلمته التي سارت في الآفاق.
رَحَلَ إلى الله وبقيتْ تعاليمه مناراتِ هديٍ تنادي الحائرين، وتعين السالكين، وتؤوي الضائعين في بيداء الحياة..
وها نحن اليومَ بعد مرور مئات السنين على انتقال الإمام القدوة نجد القافلةَ ما تزال تحاول السير إلى الله متجاوزة حدودَ الزمان والمكان، تضم الكثير من الناس على ما في طريقها من عقبات وعثرات، وفي رؤاها من غَبَش.
لقد مرَّ على وفاة الإمام الرفاعي اليومَ أربع وخمسون وثمان مئة سنة، وما يزال اسمهُ يتردد في أرجاء كثيرة من البلاد، وما يزال ذكره عطرًا فواحًا يجذبُ القلوبَ والنفوسَ، وما يزال مرقدُه قائمًا تأتيه الناس من هنا وهناك زائرين.. وقبل سنوات وقفتُ عليه في بحرٍ من الرمال، وذكرت قولَ ابن الجوزي في معروف الكرخي: كم حول معروف من دفين ذهب اسمه وبلي رسمه ومعروف معروف !
وكان السيد يقول: الرجلُ مَنْ بانت آثارُه بعده.
كلُّ هذا وغيره يدفعنا إلى التساؤل: ما السرُّ في هذا الخلود وقد نُسيت دول، وطُوي ذكرُ رجالٍ كانوا في يومٍ من الأيام ملءَ الأعين والأسماع؟
ولا أجدُ مِنْ جوابٍ عاجلٍ إلا أنَّ هذا من (التمكين في الأرض) الذي وُعِدَ به عبادُ الله الصالحون، ولعلَّ هذه الملتقيات والمناسبات تدفعنا إلى هذا (التمكين) نبحث عنه ونفهمه، ونحاول الوصولَ إليه.
وبعدُ مرة أخرى: فإن الله عزوجل قد ألقى في القلب منذ وَعَيْتُ الحياة وعقلت صروفها حبَّ اكتشاف الأمور، فما تعلقّ بأمر إلا ودَّ أَنْ يكشف كهنه، ويسبر غوره، ويحيط بحقيقتهِ حتى تكون الصورةُ أوضح، والواقعُ أجلى، وحتى يكون الإيمانُ بذلك الشيء أكثرَ رسوخًا، وأشدَّ اقتناعًا وإقناعًا... وكنتُ قد نشأتُ في بيئة تحبُّ اللهَ ورسولَهُ والصالحين من عباده، وكان يتكرر على مسمعي منذ أمدٍ مديدٍ أسماء رجالٍ دونهم الرجال، ومِنْ هؤلاء القوم السيِّد أحمد الرفاعي.
وعلى الطبيعة التي جُبلتُ عليها فإنني حين تقدَّمتُ بيَ السنُّ أردتُ أن أعود إلى الإمام الرفاعي، وأقرأَ سيرته وتعاليمه، حسب خطتي، فعاودتُ ما قرأتُ وما لم أقرأ من قبل، ومددتُ يدي إلى كل مصدرٍ استطعت الوصول إليه، وبعد جولةٍ امتدّتْ حينًا من الدهر أجدني قد أتيتُ على جمهرةٍ كبرى من المصادر.. إلا أنَّ ذلك كله لم يجب على أسئلتي، ولم يوصلني إلى ما أريد، وبقيتْ لديَّ مشاعر أخرى غامضة تفتِّش عن جلاء.
وكان أَنْ هداني الله عزَّ وجلَّ إلى مخطوطات متناثرةٍ في مكتبات شتى، عربية وعالمية، مخطوطات وثقتُ بها، لم تمتدَّ إليها يد التغيير، ولا نالها قلمُ التبديل، ولا عبثتْ بها إرادةُ التزوير، وإذا بالضباب ينقشع، وبالغموض ينجلي، وتتكشف صورةٌ لا أُبعد إذا قلت: إنها الصورة التي لا يتناقض فيها النقل، ولا يشكك فيها العقل، وإنها الحقيقةُ الحقة بعيدًا عن تصاوير الرواة، وعن خيالات النقلة، وتزيّد المتزيدين وتصرُّف المتصرفين، ولذلك حديث طويل مؤلم فيه شؤون وشجون، أو فنون وفتون.
والآن أجيب على هذه الأسئلة:
1. ما مبلغ الرفاعي من الاتِّباع؟
الجوابُ: لقد كان على قَدَم النبي صلى الله عليه وسلم خطوة خطوة، وكان يقول: "قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لم يقصَّ الشارب فليس منا"، ولو قال: مَنْ لم يقطع الرأس فليس منا، لقطعنا الرؤوس مبالغةً في حبِّ الاتباع".
2. وكيف هي علاقتُه بربه؟
الجواب: كانت علاقةَ معرفةٍ تظلها الدهشة، وعلاقةَ حب تتصاغر أمامه الجبال... كان يقولُ: "سَمِعَ أهلُ العلم أنَّ لهم ربًا وما عرفوه، ولو عرفوه ما هنأ لهم العيش، ولا لذ لهم القرار. وسمعوا أنَّ لهم نبيًا ولو عرفوه ما وجدوا عنه اصطبارًا".
وأكثر ما كان يجري على لسانه في أوقات ذكره ومناجاته للباري جلَّ جلاله:
"يا دهشة يا حيرة يا حرفًا لا يُقرا. أَيْ هو يامَنْ لا يعلم ما هو إلا هو".


الرفاعي. الإصلاح. التربية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع