مدونة يوسف أحمد محمد


1ـ تعثر في ثنايا الأسفار، وتقحم في عرين الأفكار

د.يوسف أحمد محمد | Yusuf Ahmed


15/06/2021 القراءات: 421  


1ـ تعثر في ثنايا الأسفار ‏ قد يعطي الرب شخصاً ما قدرة لاستخراج فائدة من بين براثن الشر، واستخلاص دواء من ‏بين سم مدفف، وانتخاب إبريز من الذهب الصافي من بين أتربة وعُفُونٍ.‏ ‏ وقد يُقال إنَّ وجودَ مثل هذا الشخص ذي الإمكانية المتميزة ضرورة شرعية، وحاجة واقعية؛ ‏إذ الخير الصافي عز ونذر، والشَّوب طم وعم، واختلط الحبل بالنابل، وامتزج الخير بالشر، ‏ولتبس الحق بالباطل، ونفخ المبطلون بما في أيديهم من العلوم والمعارف سما زعافا، وباطلا ‏ماحقا، ودسيسة مُبيرة لا تقوى عامة الناس على ميرة الخير، وإدراك مرام الكلام، وما وراء ‏الاصطلاحات من معان ومرام؛ ولذلك يجب إبعاد هؤلاء عن الغوص في بحار الهلاك، ‏والورود على مناهل العطب. فمدرب الأسود واللاعب معها لا ينبغي أن يغري الدهماء ‏بمصارعة الليوث، وملاعبة الضراغم، والصيدلي الحاذق الذي ينتزع الأدوية من فكي الثعبان، ‏والحيات ذات السموم القاتلة لا ينبغي ألا يعرض خطر المزاولة السموم لعامة الناس، أو ‏إغرائهم بملامسة الجَنان والحيَّات؛ لأن ذلك يسبب لهم هلاكا وعطبا، وكم من أدوية تشفي ‏أقواما وتردي آخرين! ‏ ‏ وكتب الملاحدة، ومقررات الشيوعيين، ومناهج الليبراليين، وتأليفات أهل الباطل لا ينبغي ‏أن تكون في متاول أيدي العوام، والصغار السذج، حتى لا تفتك قلوبَهم البريئة سهامُ ‏الملحدين، وحتى لا تتشرب صدورُهم الطاهرة جراثيمَ غَدرهم، فيخسروا في الدنيا والآخرة.‏ ‏ وهؤلاء ـ أعني المبتدئين وأشباههم ـ في أمسِّ الحاجة مَن يَسقون عينَ العلوم الصافيةَ، ‏واليقينَ الثابتةَ، والإيمانَ الراسخ، حتى تتقوى عيدان معرفتهم، وتترسخ جذور إدراكهم بحيث ‏لا تحركهم الرياح العاتية بله قلعهم، فيثبتوا على الدرب، ويسعدوا في الدنيا والآخرة!‏
عندما كبرتُ أدركتُ خطورة إرضاع الصغار لِبأ الأفكار الفلسفية، وكتب الفكر الموضوعة ‏على سنن الفلسفة، والدفاتر المحشوَّة فيها بالآراء المرسلة، والإنشاءات التي لا خطام لها، ‏والاحتمالات التي لا مرجع لها، فهي لا تعدوا أنها آراء رجال وسوانح أفكار، ونتائج عقول، ‏وما انقدح عن زناد فكر من تخيلات غير معصومة، وراء غير موثوقة يقينا، وما ترتب على ‏ظروف غير مستقرة، ومقالة غير متخصصة، فإرضاع الصغار في زمن تكوينهم من ذاك ‏الثدي، وإيرادهم هذا المنهل، وإقحامهم في هذه الورطة له آثار وخيمة، وأمراض فتاكة، ‏وتنشئة غير سوية، وتصور غير سديد نحلب اليوم أشطره، ونعاني من تبعاته، بحيث اختلط ‏الحبل بالنابل، والصافي بالكدر، والحق بالباطل، والسم بالعسل، والصحيح بالفاسد، والزيف ‏بالأصيل، فنشأ جيل احتجزت هذه الآراءُ في عقولهم مساحةً واسعة، واحتلت في تفكيرهم ‏محل القداسة، واتخذ هؤلاء الكتاب وكتبهم مرجعا يثقون به بدون تمحيص؛ إذ التمحيص ‏ليس في مقدرتهم، ولا متناول أيديهم، وما تذوقوا ـ أصلا ـ علما رصينا، ولا قاعدة فاحصة، ‏ولا تربوا على نص مقدس، يحفظون آراء الرجال أكثر من حفظهم النصوص، ويعرفون أسماء ‏المفكرين أكثر مما يعرفون الفقهاء والمفسرين، ويزدادون بالمفكرين حبا، وعن الفقهاء بعدا؛ ‏ولذلك يتقحمون في هذا البحر العميق بلا روية، ويَلِجون فيه بلا خوف، فيهلكون في ‏تضاعيف كتب الفكر، فإذا وردوها لا يزيدون منها إلا عطشا، وإذا قرءوها لا يستخرجوا ‏منها إلا شكوكا وشبهات تعكر صفو فطرتهم، وتزلزل ثبوت أقدامهم، وتخرب فطرتهم ‏الأصيلة، وتقودهم إلى تخليط وتشويش، وتدوخهم تنميق ألفاظهم، ورنقة تعابيرهم، وسلاسة ‏أساليهم، فظنون أنَّ كل حاذق في الحبك والتأليف حاذق في جميع العلوم، فغاب عنهم؛ ‏لحداثتهم أن المفكر البارع في تسويق أفكاره لا يلزم أن يكون مجيدا للعلوم الشرعية، والأصول ‏العقدية!‏ ‏ كان لنا مرشد صادق يوم أن كنا حدثاء السنِ والعلم ، ولكنه كان عديم الخبرة، ارتجالي ‏المعرفة، مبتور الأصل معرفة، فهو صَحفيٌّ، أنتجته الصحف إنتاجا، وأخرجته كتب الفكر ‏إخراجا حتى انتزع منها المعلومات انتزاعا، ودخل فيها وحده، وخرج منها مشوش البال، ‏ضاحل المعرفة، متضارب المواقف، يقدم رجلا ويؤخر أخرى، تائها في صحراء اصطلاحات ‏العلماء، ضالا في فلات مبادئ المعارف، فأوحى إلينا: أن غاصوا في غمار هذا البحر الهائج ‏على قلة خبرة، ومحدودية المعرفة، فتوكلنا على ربنا، وغمضنا عيوننا ولم نفتح حتى وصلنا إلى ‏ثبجها، وتوسطنا على أمواجها، وكنا كالجسد والروح، لا يمكن التفرقة بيننا، ولكننا عندما ‏خضنا في هذا المعترك، وتطفلنا على مطالعة هذه الكتب تفرقت بنا السبل، وتباينت وجهات ‏نظرنا في مسائل كثيرة حتى حصلت النفرة بيننا، ودب الخلاف في صدورنا، حتى تبرأ بعضنا ‏عن بعض، بعد احتدام نقاش دار بيننا حول مسائل لم نصل إلى كنهها، ولم نستطع فهم ‏وجهتها، ولم نتسلح بأدواتها ومقدماتها، اتفقنا على تكفير حاكم البلد بعد عرض حاله على ‏ما في كتاب المفكر، وتسطيره مسطرة فهمه وتحريره، بيد أننا اختلفنا شيعة الحاكم وأتباعه، ‏وجنوده وعساكره، وعمَّاله وتجاره، فمنا المكفر، ومنا المتلكئ، ومنا المتحفظ، ومنا المتورع، ‏حتى صرنا شيعا وطوائف يكفر بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا؛ قربة لله، وتبرؤً عن ‏أعداء الله وأعداء رسوله؛ لأن من لم يكفر الكافر فهو كافر.‏ ‏ 


تعثر في ثنايا الأسفار


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع