مدونة وسام نعمت ابراهيم السعدي


مفهوم المصلحة الدولية العليا

د. وسام نعمت إبراهيم السعدي | DR.Wisam Nimat Ibrahim ALSaadi


10/05/2022 القراءات: 1879  



لقد تعرض رجال القانون الدولي الأوائل (فيتوريه، سواريز، جنتلي) إلى موضوع المصلحة الدولية العليا منطلقين من تحديدهم لمكانها ومعناها من نظرية القانون الوطني، ويفرق الفقيه جروسيوس في معالجته لهذا الموضوع بين المعاهدات المتضمنة لقواعد القانون الطبيعي والمعاهدات الأخرى، حيث يرى في الأولى إلزاماً لا خروج عليه بأي حال من الأحوال من قبل الدول. وان هذه الفئة من القواعد هي قواعد تمس المصلحة العليا للدول ولا يمكن معارضتها. وفي منتصف القرن التاسع عشر سادت المدرسة الوضعية التي اعتبرت بدورها إن المعاهدات الدولية لا يمكن أن تعارض المصلحة الدولية للمجتمع الدولي.(1)
ورغم ما تقدم لم يفرد المتخصصين في إطار دراسات القانون الدولي تحديداً دقيقاً لمفهوم مصطلح "المصلحة الدولية العليا" بل تناول هؤلاء في بعض مؤلفاتهم وكتبهم وأبحاثهم هذا المصطلح باستعراضه بشكل موجز وسريع أو حتى أن منهم من لم يقف على تحديد بسيط لمفهومه رغم تزايد تداوله في واقع التعامل الدولي، ولو سألنا عن الأسباب التي تقف وراء ذلك لوجدنا أن بعضها يرتبط بحداثة المصطلح حيث لم يبرز هذا المصطلح إلى حيز التعامل الدولي إلا منذ وقت قريب وأصبحت الكثير من الأوساط الدولية تردده بشيء من الخجل وتحاول أن تتعامل معه باعتباره شيء تنظيرياً أو طرحاً مستقبلياً أو بأحسن الأحوال بوصفه مصطلحاً سياسياً يخلو من أي قيمة قانونية.
من جانب أخر كان تأخر استخدام هذا المصطلح يرتبط باستحواذ المذهب الإرادي في القانون الدولي العام على مجمل الأنشطة والوقائع والتعاملات الدولية، هذا المذهب يمجد كثيراً من دور الإرادة الصانعة للقانون الدولي من خلال الرجوع إلى إرادة الدول وبالتالي الدولة وفقاً لتوصيفات هذا المذهب هي صاحبة القول الفصل في كل ما يجب أن ينشأ ويقرر في إطار القانون الدولي وليس هناك مجال لقبول أي إرادة تعلوا في شكلها أو في تأثيرها على إرادة الدولة لأنها أساس القانون الدولي ومرتكزه ومحوره الأساس.
ويرتبط تأخر اعتماد مصطلح المصلحة الدولية العليا بعنصر أخر وهو مبدأ الرضائية في إنشاء الالتزامات الدولية، هذا المبدأ يقرر بان الدول لا تكره على الدخول في أعمال قانونية في القانون الدولي بدون رضاها، وبالتالي سيترتب على ذلك صعوبة التوفيق بين هذا الطرح وبين القول بان هناك إمكانية لإخضاع الدول لقواعد عليا تحتمها فكرة المصلحة الدولية العليا، لان هذا يعني وببساطة هدم لمبدأ الرضائية في التعامل الدولي.
وأخيراً قد يكون السبب الأخر الذي يقف وراء تأخر بروز هذا المصطلح هو الموقف من فكرة الجزاء في القانون الدولي، حيث ينكر جانب كبير من الفقه القانوني تمتع قواعد القانون الدولي العام بصفة القاعدة القانونية ويعيبون عليه ذلك بدعوى عدم وجود الإكراه المادي والجزاء القانوني الملموس الذي يجب أن يتوفر في القاعدة القانونية، ومع غياب فكرة الجزاء سيكون من غير المنطقي الحديث عن مصالح دولية عليا تسمو على ما سواها من المصالح الأخرى. ولن نناقش فكرة الجزاء في القانون الدولي ولكن نكتفي بالقول أن الجزاء وبحسب الرأي الراجح في الفقه القانوني ليس عنصراً من عناصر القواعد القانونية حيث يكتفى بان تكون القاعدة القانونية عامة ومجردة وملزمة وان تصدر عن سلطة مختصة بها.
وبالعودة إلى مفهوم مصطلح المصلحة الدولية العليا، ومع غياب التعريفات التي تصدت لتحديد هذا المصطلح وذلك بحسب المصادر التي اطلعنا عليها، إلا أننا نستطيع أن نقدم تعريفاً المصطلح المصلحة الدولية العليا وعلى النحو الأتي: " هي الغايات القانونية الكبرى التي تنطلق منها الأحكام القانونية الدولية وتؤسس على أساسها منظومة قواعد القانون الدولي العام، وهي المحدادات الجوهرية لمشروعية النشاط الدولي لارتباطها بالنظام الدولي العام والقواعد الدولية الآمرة".
ويمكننا أن نحلل التعريف الذي سبق ذكره وكما يأتي:
إن القول بان المصلحة الدولية العلية هي " الغايات القانونية الكبرى" فان هذا الأمر يرتبط بفلسفة إقرار النصوص الدولية، إذا أن تلك النصوص تأتي لمعالجة مشكلات مختلفة ولكن واضعو النص يعتمدون على منهجية محددة في التعامل مع النص تنطلق من الغايات الكبرى والتي يشتق عنها الأهداف الأساسية والمنطلقات الجوهرية التي تحاول النصوص التدخل من اجل الوصول إلى مبتغى تلك الأهداف والغايات، ووصف تلك الغايات بأنها قانونية يشتق منه حقيقة أن المعالجة التي تحاول أن تصل إليها النصوص هي معالجة قانونية بحتة بعيداً عن معطيات العلوم الأخرى كالاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها.
أما قولنا بأنها تؤسس على أساسها منظومة قواعد القانون الدولي، فان هذا يبدو واضحاً من خلال وصف تلك القواعد بأنها حلقات صغيرة تترابط فيما بينها لتشكل حلقات اكبر ثم تترابط لتشكل محاور ومدارات تسير في فلكها المعالجات القانونية لتحاول بلوغ غايات قانونية كبرى تمثلها المصلحة الدولية العليا. وكلما تحركت تلك النصوص بصورة منتظمة وومحددة وبأفق واضح باتجاه مدارها الصحيح كانت مؤشرات التطابق مع الغايات اقرب للتحقق من غيرها في الفرص والفرضيات.
وفي قولنا بأنها المحددات الجوهرية لمشروعية النشاطات الدولية إنما أردنا من هذا القول أن نشير إلى أن أي محاولة لقياس مشروعية النشاط الدولي استناداً إلى قواعد جزئية في القانون الدولي قد يعيق الجهد الرامي إلى قياس المشروعية وقد يوصلنا إلى قراءات مغلوطة في معرض تقييم تلك المشروعية، فلا بد لنا من علائم واضحة ودعائم ثابتة ومرتكزات معروفة يمكن من خلالها تقييم النشاط ومحاكمته والوصول إلى الحكم بمشروعيته أو بعدم مشروعيته لكي تصبح الأحكام عندها اقرب للصواب وابلغ في الأثر.
وفي جميع الأحوال فان هذه المصالح منبثقة من فكرة النظام الدولي العام ومن قواعد دولية آمرة واجبة الاحترام تحتم على جميع أشخاص القانون الدولي طاعتها واحترامها والنزول عند حكمها والإقرار بأحكامها لان الحياة الدولية لا تستقيم بغيرها.


النظام الدولي - القانون الدولي - المصلحة الدولية


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع