مدونة د. جميل مثنى الحبري


في إجلال العلماء وتقديرهم منازلهم: د. رياض القرشي (2)

د. جميل مثنى الحبري | Jameel Alhipary


11/04/2022 القراءات: 1052  


فما أن يُذكر اسمُه لديهم، إلا وتراهم يُشيدون به وبعلمه، وبأدائه وتمكّنه من موادّه. أشرف على العديد من الرسائل الجامعيّة، سواء كان مشرفًا رئيسًا أم كان مساعدًا؛ في الأدب القديم، وفي الأدب الحديث، وفي البلاغة، وفي علم التحقيق، وفي النقد الأدبي أيضًا، ومنها رسالتي للماجستير الموسومة بـ"آلياتُ قراءة التراث البلاغي والنقدي في النقد العربي المعاصر- محمّد مفتاح أنموذجًا" 2015م، بالإضافة إلى بعض الرسائل المتعلّقة بالأدب السردي.
وممّا يتحلّى به أستاذُنا الجليل، المنهجيّة العلميّة، والدقّة المُتناهية في معرفةِ أوجهِ الفروق بين المناهج النقديّة الحديثة، لاسيّما الحداثيّة منها. وكثيرًا ما كان يتّفق مع أستاذنا عبد الله البار في بعض وجهات النظر الأدبيّة والنقديّة، سواء في صدد مناقشتهما للطلّاب المعدّين لخططِ رسائلهم وأطروحاتهم في حلقات العرض (السِّمَنار)، أم في سياق اشتراكهما في مناقشة إحداها. إذ تتّسم منهجيّتُهما بالطابع التعليمي التوجيهي، واتّباع أسلوب الحوار والمحاورة، بعيدًا عما هو سائدٌ في أروقة الجامعات العربية من تغلّبِ طريقة المحاكمة والاستعراض والتعالم على الطلاب والباحثين، على الطريقة أو النمط الأول. ناهيك عن اتّفاقهما في كثيرٍ من الجوانب العلميّة والمسائل الإشكاليّة، لا سيّما بعد التحاق أستاذنا البار بالكليّة، بُعيد قيام الوحدة المباركة عام 1990م، قادمًا من جامعة عدن، وتعيينه مُعيدًا في القسم، كما ذكرَ ذلك في أحد حواراته. ولعلّ العلاقة بين هذين الأستاذين الأخوين الجليلين، فضلًا عن كونها علاقةَ مودّة وزمالة، ترتقي إلى أن تكون علاقةً روحيّة. فكلاهما في العام ذاته 2009م، أصيبا بأزمةٍ قلبيّة، اضطُرّ كل منهما إلى إجراءِ عمليّة جراحيّة (قلب مفتوح)، وإن كانت حادّةً بالغةَ الخطورة مع الدكتور رياض؛ كادت أن تُوديَ بحياتِه- لولا لطف الله وتسليمه- تمّ نقله على إثرها إلى السعودية، ومعالجة التقصير الطبيّ المترتّب على العمليّة التي أُجريت له في صنعاء. ولعلّ ما دفعَ عنه هذا البلاء، يرجعُ إلى ما يُقدّمُه من خيرٍ ومعروفٍ وأعمالٍ إنسانية سرًا وعلانيّة، نسمعُ عنها بين الفينة والأخرى.
كان أستاذُنا د. رياض، جادًّا مثابرًا في عمله، مُحبًّا له، منضبطًا في حضور محاضراته، وإذا ما تعذّر حضورُه، أو طرأَ له طارئٌ ما، نتيجةَ انشغاله بإحدى تلك المسؤوليّات المُلقاة على عاتقه، يتّصل بأحدِ الزملاء، أو بأحدِ الأساتذة لإبلاغنا، وأتذكر مرّةً أنه تواصل مع العميد د. حسين الباكري أستاذ الحديث النبوي- رحمة الله تغشاه- ليعتذرَ لنا عن عدمِ تمكّنه من الحضور. أما عن دقّته في عمله، فسأكتفي بذِكر ما حدث لي معه شخصيًّا، في مادة نظريّة الأدب، فقد حُجبت درجتي فيها، بسبب أحد المراقبين في القاعة، الذي يقتضي الأمرُ منه المرورَ على الطلّاب بورقتي التوقيعات؛ إحداهما تُسلّم للكنترول، والأخرى تُسلّم لأستاذ المادة، لرصد الدرجة فيها. ولسوء الحظ مرّ أحدهم عليّ بورقةٍ واحدة للتوقيع عليها، ولم يمر الآخر عليّ بالورقة الأخرى. وبالطبع فالطالبُ في قاعة الامتحان- نتيجة التوتّر، والحالة المصاحبة لجوّ الاختبارات- لا يتنبّه، ولا ينشغل بالُه بذلك، فضلًا عن أنها ليست مسؤوليّته. فلمّا وصلت الورقة إلى أستاذنا، وأراد أن يضع درجتي أمام اسمي، فُوجئ بعدم وجود إمضائي فيها، مما اضطُرّ إلى وضع علامةِ استفهام أمام الاسم دون وضع الدرجة. وفي بداية السنة الرابعة، إبّان تدريسه إيّانا مادة النقد الأدبي الحديث، نادى باسمي في قاعة المحاضرة، ليُسلمني خطابًا مُوجهًّا للكنترول عن سببِ عدمِ توقيعي في ورقة التوقيعات، وكنت وقتها مُحتارًا، في كيفيّة التواصل به- لمهابته- بعد مراجعتي الكنترول مِرارًا، وتأكيدهم لي أنّ ورقتي موجودةٌ ومدوّنةٌ فيها الدرجة، لكنّها محجوبةٌ في الكشف المرفق لدفاتر الامتحانات، وأنّ عليّ مراجعةَ أستاذ المادة. وتمّ- بحمدِ الله تعالى- معالجةَ ذلك بعد تأكدّهم من حضوري ومُهري للورقةِ الأخرى بتوقيعي، وكذلك إرفاق خطاب الدكتور الموجَّه لهم.
وثمّة موقفٌ آخر مع أستاذنا، وتحديدًا إبّان عقد حلقة (السِّمنار)، في ( 18/1/ 2010م)، في القسم، لمناقشة موضوعاتنا أنا وزملائي الثلاثة: مليحة الأسعدي، وعبد الله الفقيه، ومبخوت العزّي، المُقدّمة لتسجيل رسائلنا للماجستير. وللأسفِ الشديد، فقد كان هو الوحيدُ من الأساتذةِ كلّهم- باستثناء د. عبد الله البار الذي تغيّبَ عن الحضور، ولم نعلم ما السبب، على الرغم من أننا كنّا نُعوّل كثيرًا على حضوره- حفظه الله ورعاه- لما له من مكانةٍ في قلوبنا؟- الذي أعادَ لي خُطّتي، وهي مغطّاةٌ كليًّا باللونِ الأحمر؛ مُدِّونًا فيها كلَّ مُلاحظاتِه واقتراحاتِه- التي يرى أنّها ممّا ينبغي السير عليه ومراعاته في عمليّة البحث، وكذلك بيان ما ينبغي عليّ إجراءَه من تعديلاتٍ في الخطّة- لخبرته العلميّة ومِراسه الطويلين في هذا الجانب من جهة، ولأنّه المتخصّصُ الوحيدُ في القسمِ في هذا الشأن من جهةٍ أخرى. أما بقيّة الأساتذة، فقد اكتفوا بإلقاء بعض الملاحظاتِ شفويًّا، ولم يُعِد لي أحدُهم خُطّتي- كما تقتضي ذلك أبجديّاتُ البحث العلمي، وما هو مُتعارفٌ عليه في بروتوكولات الجامعات (مهامها وجدول أعمالها)- مشفوعةً بالتعديلات والملاحظات، كما كنّا نتوقّع ذلك منهم ونتوسّمه. أمّا الأمرُ الثالث المحفورةُ أحداثُه وذكرياتُه في الذَّاكرة، فيتمثّلُ في تلك التوجيهات والإرشادات العلميّة إبّان إشرافه عليّ في الماجستير (2010- 2014م)، أنا وصديقي العزيز الغائب الحاضر صدّام الشيباني رفيق الدرب منذُ بدايةِ الدراسة الجامعيّة، مرورًا بالتمهيدي ماجستير، ثمّ الماجستير، وانتهاء بالدكتوراه. لكنّه أبى إلا أن يشُقّ الجسدَ الواحدَ ويمضي بنصفِه، مُحلِّقًا به بعيدًا- تاركًا نصفَه الآخرَ (نِصفي)- صوبَ بلاد المهجر. وقد كانت تلك اللقاءاتُ والحوارات مُفعَمةً بالعلم والمعرفة، وقراءة الواقع والمستقبل، تتخلّلُها الطُّرفةُ وروحُ الدُّعابة.


في إجلال العلماء، د. رياض القرشي.


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع