مدونة ياسر الدالي


منعطف جديد ..(قصة قصيرة).

ياسر الدالي | Yasser Addali


29/12/2021 القراءات: 2138  


مُنعطَفٌ جديد..
✍️ ياسر الدالي.

في منتصف عقده الخامس، تظهر على جسده النحيل علامات الكِبَر في مَلاحةٍ باديةٍ للعيان، وملامح العمل العضلي والجهد بارزةٌ عليه وكأنه يمتهِن عملًا حرًا.. يراه إمام المسجد في فتراتٍ متقطعة، وكأنه خلال فترة عمله يتخذ من هذا المسجد القريب منه مصلىً لتأدية فرائضه المكتوبة،
يدخل المسجد بتؤدُّهٍ ووقار، وقطرات الوضوء تتساقط منه، يشق طريقه نحو الجهة اليمنى من الصف الأول والتي اتخذ منها مكانًا اعتياديًا لتأدية السنن والفرائض حال تواجده.
سمات الصلاح بارزةٌ في محيّاه، لحيةٌ مرتبةٌ خالطها البياض كثيرًا، وجهٌ مشع، مداومةٌ على الأذكار بعد الصلاة، حرصه على السلام على الإمام وكبار السن من رواد المسجد الدائمين.
لكن ما لفت انتباه الإمام كثيرًا في هذا الرجل تصرفٌ بدا غريبًا على الإمام، فبعد أن يصلي الرجل السنة الراتبة يعتدل في جلسته، يتربع، يتجه بنظره إلى الدرج الذي يحوي المصاحف الشريفة، يطيل النظر فيه كثيرًا، ثم ما تلبث أن تتساقط دموعه على خده بالتزامن مع إطالة النظر إلى المصاحف الشريفة، في موقفٍ يسوده الصمت إلا من تنهدات وزفراتٍ حرّى يطلقُها بين الفينة والأخرى تدل على حريقٍ مشتعلٍ داخله.
يتكرر هذا المشهد مرات عديدة وإمام المسجد يلاحظ ذلك، فتنتابه هواجس كثيرة.
تُرى ما الذي يعانيه؟
ما الذي يشغل باله؟
ما الذي ينغِّص عليه عبادته؟
تردَّد إمام المسجد كثيرًا في الذهاب إليه، والسؤال عن تلك الحالة، لكن تكرار المشهد وبكاءه بشدةٍ في آخر مرة دفع الإمام نحوه بقوةٍ، ليجد نفسه جالسًا بجواره.
- السلام عليك يا عم.
-(يمسح دموعه بسرعةٍ بطرف شاله ويديه، ليخفي آثار بكائه ): وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
- كيف حالك يا عم؟
- نحمد الله على العافية، الحمد لله على كل حال، يستاهل الحمد.
(ردّ بهذه التحميدات جميعًا). استجمع الإمام نفسه وتوجّه له بالسؤال الذي يعِنُّ بباله ويشغله كلما رآه: ما الذي يبكيك يا عم؟ ما الذي يشغل بالك إلى هذه الدرجة؟
حاول الرجل التخلص بإجابته المتوقعة: الحمد لله يا بني، الحمد لله، ربك كريم ..
ضغط إمام المسجد عليه قليلًا علّه يخبره عن حاجته فلعله يستطيع المساعدة.. فوجئ الإمام بردّ الرجل، ما جعله يتسمّر في مكانه مطرقًا يسمع له باهتمامٍ كبير، يا للهمِّ الكبير الذي يشغله، ويا للذنب الكبير الذي يشعر به، قليل من الناس من يفصح عن هكذا أمر، قليل من الناس من يحكي لغيره عن هكذا معاناة.
كلماتٌ معدودةٌ لا غير، قالها عن خجلٍ وندمٍ ومعاناة.. قال: يا ولدي، هل ترى هذا المصحف الذي في الدرج؟
- نعم أراه، ما به؟!
- كم هي المسافة التي تفصلني عنه؟ متر ونصف تقريبًا، صحيح؟
- (هزّ الإمام رأسه بالموافقة)، ليتحدث بعدها الرجل بما لم يكن في حسبان الإمام.
- يا ولدي، مسافةٌ بسيطةٌ بيني وبين كتاب الله، لكني لا أستطيع قراءته، كم من الأجر حرمته حتى اليوم؟ لقد شُغلت عنه فترةً طويلةً في طلب الرزق وإعالة أسرتي، لكن هذا الأمر لا يعفيني من مسؤوليتي الكاملة في عدم تعلم القراءة والكتابة، جرّ تنهيدةً عميقةً ثم قال: سامح الله الأولين، ما كانوا يهتمون بنا في هذا الجانب، هذا هو الأمر الذي يحزنني يا بني، صحيح أني أسمعه، لكن هذا لا يكفي ولا يرويني منه، أريد أن أقرأه بنفس، أستمتع بترتيله وتلاوته، أفهم معانيه، آخذ زادي منه.
مثّل هذا الموقف للإمام صدمةً غير متوقعة، لكن أعطاه دافعًا قويًا لمشروع طالما كان يفكر به.


قصة قصيرة


يجب تسجيل الدخول للمشاركة في اثراء الموضوع


ربح الرجل مشروعا قد تكون فيها نجاته.. جميل حقا